تصنیف المقالات
احدث المقالات
المقالات العشوائية
المقالات الاکثرُ مشاهدة
■ السید عادل العلوي (٤٨)
■ منير الخباز (١)
■ السید احمد البهشتي (٢)
■ حسن الخباز (١)
■ كلمتنا (٢٨)
■ الحاج حسين الشاكري (١١)
■ الاستاذ جعفر البياتي (٤)
■ صالح السلطاني (١)
■ الشيخ محمد رضا آل صادق (١)
■ لبيب بيضون (٧)
■ الدكتور الشيخ عبد الرسول غفّاري (١)
■ السيد حسين الحسني (١)
■ مكي البغدادي (٢)
■ الدكتور حميد النجدي (٣)
■ السيد رامي اليوزبكي (١)
■ سعيد إبراهيم النجفي (١)
■ الدکتور طارق الحسیني (٢)
■ السيّد جعفر الحلّي (١)
■ الاُستاذ ناصر الباقري (١)
■ السيّد محمّد علي الحلو (١)
■ السيّد شهاب الدين الحسيني (١)
■ شريف إبراهيم (١)
■ غدير الأسدي (١)
■ هادي نبوي (١)
■ لطفي عبد الصمد (١)
■ بنت الإمام كاشف الغطاء (١)
■ محمد محسن العید (٢)
■ عبدالله مصطفی دیم (١)
■ المرحوم السید عامر العلوي (٢)
■ میرنو بوبکر بارو (١)
■ الشیخ ریاض الاسدي (٢)
■ السید علي الهاشمي (١)
■ السيّد سمير المسكي (١)
■ الاُستاذ غازي نايف الأسعد (١)
■ السيّد فخر الدين الحيدري (١)
■ الشيخ عبد الله الأسعد (٢)
■ علي خزاعي (١)
■ محمّد مهدي الشامي (١)
■ محمّد محسن العيد (٢)
■ الشيخ خضر الأسدي (٢)
■ أبو فراس الحمداني (١)
■ فرزدق (١)
■ هيئة التحرير (٤٣)
■ دعبل الخزاعي (١)
■ الجواهري (٣)
■ الشيخ إبراهيم الكعبي (١)
■ حامدة جاودان (٣)
■ داخل خضر الرویمي (١)
■ الشيخ إبراهيم الباوي (١)
■ محمدکاظم الشیخ عبدالمحسن الشھابی (١)
■ میثم ھادی (١)
■ سید لیث الحیدري (١)
■ الشیخ حسن الخالدی (٢)
■ الشیخ وھاب الدراجي (١)
■ الحاج عباس الكعبي (٢)
■ ابراھیم جاسم الحسین (١)
■ علي محمد البحّار (١)
■ بلیغ عبدالله محمد البحراني (١)
■ الدكتورحسين علي محفوظ (١٠)
■ حافظ محمد سعيد - نيجيريا (١)
■ الأستاذ العلامة الشيخ علي الکوراني (٤)
■ عزالدین الکاشانی (١)
■ أبو زينب السلطاني - العراق (١)
■ فاطمة خوزي مبارک (١)
■ شیخ جواد آل راضي (١)
■ الشهید الشیخ مرتضی المطهري (١)
■ شيخ ماهر الحجاج - العراق (١)
■ آية الله المرحوم السيد علي بن الحسين العلوي (١٣)
■ رعد الساعدي (١)
■ الشیخ رضا المختاري (١)
■ الشیخ محمد رضا النائیني (٢)
■ الشيخ علي حسن الكعبي (٥)
■ العلامةالسيد محسن الأمين (١)
■ السید علي رضا الموسوي (٢)
■ رحیم أمید (٦)
■ غازي عبد الحسن إبراهيم (١)
■ عبد الرسول محي الدین (١)
■ الشیخ فیصل العلیاوي (١)
■ أبو حوراء الهنداوي (٢)
■ عبد الحمید (١)
■ السيدمصطفیٰ ماجدالحسیني (١)
■ السيد محمد الکاظمي (٣)
■ حسن عجة الکندي (٥)
■ أبو نعمت فخري الباکستاني (١)
■ ابن الوردي (١)
■ محمدبن سلیمان التنکابني (١)
■ عبد المجید (١)
■ الشيخ علي حسین جاسم البھادلي (١)
■ مائدۃ عبدالحمید (٧)
■ كریم بلال ـ الكاظمین (١)
■ عبد الرزاق عبدالواحد (١)
■ أبو بكر الرازي
■ الشيخ غالب الكعبي (٨)
■ ماھر الجراح (٤)
■ الدکتور محمد الجمعة (١)
■ الحاج کمال علوان (٣)
■ السید سعد الذبحاوي (١)
■ فارس علي العامر (٩)
■ رحيم اميد (١)
■ الشيخ محسن القرائتي (١)
■ الشيخ احمد الوائلي (١)
■ الشیخ علي حسن الکعبي (١)
■ عبد الهادي چیوان (٥)
■ الشیخ طالب الخزاعي (٥)
■ عباس توبج (١)
■ السید صباح البهبهاني (١)
■ شیخ محمد عیسی البحراني (١)
■ السید محمد رضا الجلالي (٦)
■ المرحوم سید علي العلوي (١)
■ یاسر الشجاعي (٤)
■ الشیخ علي الشجاعي (١)
■ میمون البراك (١)
■ مفید حمیدیان (٢)
■ مفید حمیدیان
■ السید محمد لاجوردي (١)
■ السید محمد حسن الموسوي (٣)
■ محمد محسن العمید (١)
■ علي یحیی تیمسوقي (١)
■ الدکتور طه السلامي (٣)
■ السید أحمد المددي (٦)
■ رقیة الکعبي (١)
■ عبدالله الشبراوي (١)
■ السید عبد الصاحب الهاشمي (٣)
■ السید فخر الدین الحیدري (١)
■ عبد الاله النعماني (٥)
■ بنت العلي الحیدري (١)
■ السید حمزة ابونمي (١)
■ الشیخ محمد جواد البستاني (٢)
■ نبیهة علي مدن (٢)
■ جبرئیل سیسي (٣)
■ السید محمد علي العلوي (٣)
■ علي الأعظمي البغدادي (١)
■ السید علي الخامنئي (١)
■ حسن بن فرحان المالکي (١)
■ ملا عزیز ابومنتظر (١)
■ السید ب.ج (٢)
■ الشیخ محمد السند
■ الشیخ محمد السند (١)
■ الشیخ حبیب الکاظمي (١)
■ الشیخ حسین عبید القرشي (١)
■ محمد حسین حکمت (١)
■ المأمون العباسي (١)
■ احمد السعیدي (١)
■ سعد هادي السلامي (١)
■ عبد الرحمن صالح العشماوي (١)
■ حسن الشافعي (١)
■ فالح عبد الرضا الموسوي (١)
■ عبد الجلیل المکراني (١)
■ الشريف المرتضی علم الهدی (١)
■ السيد أحمد الحسيني الإشكوري (١)
■ سید حسین الشاهرودي (١)
■ السيد حسن نصر الله (١)
■ ميثم الديري (١)
■ الدكتور علي رمضان الأوسي (٢)
■ حسين عبيد القريشي (١)
■ حسين شرعيات (١)
■ فاضل الفراتي (١)
■ السيد مهدي الغريفي (١)
■ منير الخباز (١)
■ السید احمد البهشتي (٢)
■ حسن الخباز (١)
■ كلمتنا (٢٨)
■ الحاج حسين الشاكري (١١)
■ الاستاذ جعفر البياتي (٤)
■ صالح السلطاني (١)
■ الشيخ محمد رضا آل صادق (١)
■ لبيب بيضون (٧)
■ الدكتور الشيخ عبد الرسول غفّاري (١)
■ السيد حسين الحسني (١)
■ مكي البغدادي (٢)
■ الدكتور حميد النجدي (٣)
■ السيد رامي اليوزبكي (١)
■ سعيد إبراهيم النجفي (١)
■ الدکتور طارق الحسیني (٢)
■ السيّد جعفر الحلّي (١)
■ الاُستاذ ناصر الباقري (١)
■ السيّد محمّد علي الحلو (١)
■ السيّد شهاب الدين الحسيني (١)
■ شريف إبراهيم (١)
■ غدير الأسدي (١)
■ هادي نبوي (١)
■ لطفي عبد الصمد (١)
■ بنت الإمام كاشف الغطاء (١)
■ محمد محسن العید (٢)
■ عبدالله مصطفی دیم (١)
■ المرحوم السید عامر العلوي (٢)
■ میرنو بوبکر بارو (١)
■ الشیخ ریاض الاسدي (٢)
■ السید علي الهاشمي (١)
■ السيّد سمير المسكي (١)
■ الاُستاذ غازي نايف الأسعد (١)
■ السيّد فخر الدين الحيدري (١)
■ الشيخ عبد الله الأسعد (٢)
■ علي خزاعي (١)
■ محمّد مهدي الشامي (١)
■ محمّد محسن العيد (٢)
■ الشيخ خضر الأسدي (٢)
■ أبو فراس الحمداني (١)
■ فرزدق (١)
■ هيئة التحرير (٤٣)
■ دعبل الخزاعي (١)
■ الجواهري (٣)
■ الشيخ إبراهيم الكعبي (١)
■ حامدة جاودان (٣)
■ داخل خضر الرویمي (١)
■ الشيخ إبراهيم الباوي (١)
■ محمدکاظم الشیخ عبدالمحسن الشھابی (١)
■ میثم ھادی (١)
■ سید لیث الحیدري (١)
■ الشیخ حسن الخالدی (٢)
■ الشیخ وھاب الدراجي (١)
■ الحاج عباس الكعبي (٢)
■ ابراھیم جاسم الحسین (١)
■ علي محمد البحّار (١)
■ بلیغ عبدالله محمد البحراني (١)
■ الدكتورحسين علي محفوظ (١٠)
■ حافظ محمد سعيد - نيجيريا (١)
■ الأستاذ العلامة الشيخ علي الکوراني (٤)
■ عزالدین الکاشانی (١)
■ أبو زينب السلطاني - العراق (١)
■ فاطمة خوزي مبارک (١)
■ شیخ جواد آل راضي (١)
■ الشهید الشیخ مرتضی المطهري (١)
■ شيخ ماهر الحجاج - العراق (١)
■ آية الله المرحوم السيد علي بن الحسين العلوي (١٣)
■ رعد الساعدي (١)
■ الشیخ رضا المختاري (١)
■ الشیخ محمد رضا النائیني (٢)
■ الشيخ علي حسن الكعبي (٥)
■ العلامةالسيد محسن الأمين (١)
■ السید علي رضا الموسوي (٢)
■ رحیم أمید (٦)
■ غازي عبد الحسن إبراهيم (١)
■ عبد الرسول محي الدین (١)
■ الشیخ فیصل العلیاوي (١)
■ أبو حوراء الهنداوي (٢)
■ عبد الحمید (١)
■ السيدمصطفیٰ ماجدالحسیني (١)
■ السيد محمد الکاظمي (٣)
■ حسن عجة الکندي (٥)
■ أبو نعمت فخري الباکستاني (١)
■ ابن الوردي (١)
■ محمدبن سلیمان التنکابني (١)
■ عبد المجید (١)
■ الشيخ علي حسین جاسم البھادلي (١)
■ مائدۃ عبدالحمید (٧)
■ كریم بلال ـ الكاظمین (١)
■ عبد الرزاق عبدالواحد (١)
■ أبو بكر الرازي
■ الشيخ غالب الكعبي (٨)
■ ماھر الجراح (٤)
■ الدکتور محمد الجمعة (١)
■ الحاج کمال علوان (٣)
■ السید سعد الذبحاوي (١)
■ فارس علي العامر (٩)
■ رحيم اميد (١)
■ الشيخ محسن القرائتي (١)
■ الشيخ احمد الوائلي (١)
■ الشیخ علي حسن الکعبي (١)
■ عبد الهادي چیوان (٥)
■ الشیخ طالب الخزاعي (٥)
■ عباس توبج (١)
■ السید صباح البهبهاني (١)
■ شیخ محمد عیسی البحراني (١)
■ السید محمد رضا الجلالي (٦)
■ المرحوم سید علي العلوي (١)
■ یاسر الشجاعي (٤)
■ الشیخ علي الشجاعي (١)
■ میمون البراك (١)
■ مفید حمیدیان (٢)
■ مفید حمیدیان
■ السید محمد لاجوردي (١)
■ السید محمد حسن الموسوي (٣)
■ محمد محسن العمید (١)
■ علي یحیی تیمسوقي (١)
■ الدکتور طه السلامي (٣)
■ السید أحمد المددي (٦)
■ رقیة الکعبي (١)
■ عبدالله الشبراوي (١)
■ السید عبد الصاحب الهاشمي (٣)
■ السید فخر الدین الحیدري (١)
■ عبد الاله النعماني (٥)
■ بنت العلي الحیدري (١)
■ السید حمزة ابونمي (١)
■ الشیخ محمد جواد البستاني (٢)
■ نبیهة علي مدن (٢)
■ جبرئیل سیسي (٣)
■ السید محمد علي العلوي (٣)
■ علي الأعظمي البغدادي (١)
■ السید علي الخامنئي (١)
■ حسن بن فرحان المالکي (١)
■ ملا عزیز ابومنتظر (١)
■ السید ب.ج (٢)
■ الشیخ محمد السند
■ الشیخ محمد السند (١)
■ الشیخ حبیب الکاظمي (١)
■ الشیخ حسین عبید القرشي (١)
■ محمد حسین حکمت (١)
■ المأمون العباسي (١)
■ احمد السعیدي (١)
■ سعد هادي السلامي (١)
■ عبد الرحمن صالح العشماوي (١)
■ حسن الشافعي (١)
■ فالح عبد الرضا الموسوي (١)
■ عبد الجلیل المکراني (١)
■ الشريف المرتضی علم الهدی (١)
■ السيد أحمد الحسيني الإشكوري (١)
■ سید حسین الشاهرودي (١)
■ السيد حسن نصر الله (١)
■ ميثم الديري (١)
■ الدكتور علي رمضان الأوسي (٢)
■ حسين عبيد القريشي (١)
■ حسين شرعيات (١)
■ فاضل الفراتي (١)
■ السيد مهدي الغريفي (١)
احدث المقالات
- هيئة التحرير » الشجرة المبارکة بعض تلامذة الآخوند الخراساني- مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- هيئة التحرير » الـحـرب أو الفـقـرأیّهما الأخطر ؟!! -مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- آية الله المرحوم السيد علي بن الحسين العلوي » هاتف العقل - مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- السيد مهدي الغريفي » العادة السرية -مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- الدكتور علي رمضان الأوسي » منهج الامام الصادق× في بناء الجماعة الصالحة-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- فارس علي العامر » عاقبة المشتركين في قتل الإمام الحسين-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- نبیهة علي مدن » فكر الإمام علي بن أبي طالب-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- فاضل الفراتي » عظمة أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- حسين شرعيات » الكثرة حقّ أم باطل؟ - مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- حسين عبيد القريشي » الإسراء والمِعْراج رحلةٌ حيَّرت العقول - مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- هيئة التحرير » امتحان الله عزّ وجل أوصياء الأنبياء في حياة الأنبياء-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- الدكتور علي رمضان الأوسي » سورة التوبة براءة من المشركين -مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- ميثم الديري » المبادئ الأساسية في فهم القرآن الكريم - مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- منير الخباز » تزكية النفس -مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- السيد حسن نصر الله » هو الإنسان الكامل -حوار مع: السيد حسن نصر الله-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
المقالات العشوائية
- هيئة التحرير » معاجز المصومین (علیهم السلام) _ مجله الکوثر 28-رجب المرجب1434 هـ 2012 م
- السید عادل العلوي » المؤمن مرآة المؤمن - مجلة الکوثر العدد الثاني - محرم الحرام 1416 هـ
- الجواهري » آمنت بالحسين عليه السلام - مجلة الكوثر العدد الثامن - محرم 1419 هـ
- آية الله المرحوم السيد علي بن الحسين العلوي » في رحاب الخیر _ مجلة الکوثر الثلاثون - شهر رجب المرجب 1435هـ -2014م
- رحیم أمید » الیسیر في إثبات إیمان والد الأمیر(ع) - الکوثرالعدد السادس والعشرون رجب المرجب 1433هـ .
- السید عادل العلوي » لحظات مع شھید الاسلام - الکوثرالعدد السابع والعشرون محرم الحرام1434 هـ 2012 م
- السید علي رضا الموسوي » آداب المتعلمین - الكوثر العدد الخامس والعشرون - محرم 1433هـ
- رحیم أمید » بعض صفات النبي في القرآن - مجلة الکوثر الثالث والثلاثون - شهر محرم الحرام 1437هـ -2015م
- حسن عجة الکندي » حوار عقائدي بین الصديقین - الکوثرالعدد السابع والعشرون محرم الحرام1434 هـ 2012 م
- یاسر الشجاعي » الإمام علي - مجلة الکوثر الثاني والثلاثون - شهر رجب المرجب 1436هـ -2015م
- السيد رامي اليوزبكي » ولكم في التاريخ عبرة - مجلة الکوثر العدد الثاني - محرم الحرام 1416 هـ
- سید حسین الشاهرودي » الدعاء سلاح المؤمن -مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- فاضل الفراتي » عظمة أمیر المؤمنین علي بن أبي طالب-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- آية الله المرحوم السيد علي بن الحسين العلوي » المجیب المرحوم السید علي العلوي _ مجلة الکوثر الثاني والثلاثون - شهر رجب المرجب 1436هـ -2015م
- حامدة جاودان » انوارفاطمیّة وإشراقات نورانیّة - الكوثر العدد السابع عشر رجب 1423
المقالات الاکثرُ مشاهدة
- الشيخ عبد الله الأسعد » نقائض النِسب - مجلة الكوثر العدد الرابع عشر - محرم 1422
- سعيد إبراهيم النجفي » العلّامة الشاعر - مجلة الکوثر العدد الثاني - محرم الحرام 1416 هـ
- لطفي عبد الصمد » رؤى حول سورة الكوثر - مجلة الكوثر العدد الثامن - محرم 1419 هـ
- الحاج حسين الشاكري » النجف الأشرف قديماً وحديثاً - مجلة الكوثر العدد الخامس عشر - رجب 1422
- هيئة التحرير » الشجرة المبارکة بعض تلامذة الآخوند الخراساني- مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- الدکتور طارق الحسیني » أثر الدين الإسلامي في صحة الفرد والمجتمع - مجلة الکوثر العدد الثاني - محرم الحرام 1416 هـ
- السيد مهدي الغريفي » العادة السرية -مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- الشیخ طالب الخزاعي » هجران القرآن الکریم _ مجله الکوثر 28-رجب المرجب1434 هـ 2012 م
- كلمتنا » كلمة المجلة - مجلة الكوثر العدد الخامس - جمادي الثاني 1417 هـ
- الدكتور علي رمضان الأوسي » منهج الامام الصادق× في بناء الجماعة الصالحة-مجلة الکوثر - السادس والثلاثون والسابع وثلاثون - شهر رجب وشعبان ورمضان 1438هـ -2017م
- أبو نعمت فخري الباکستاني » أبو حنيفة بين التوثيق والتجريح - الکوثرالعدد السادس والعشرون رجب المرجب 1433هـ .
- حامدة جاودان » اصحاب طوبى - الكوثر العدد التاسع عشر رجب 1424
- الشیخ محمد جواد البستاني » تأثیر الزمان والمكان في الإجتهاد - مجلة الکوثر الرابع والثلاثون والخامس وثلاثون - شهر رجب المرجب 1437هـ -2016م
- السید عادل العلوي » الانس بالله - مجلة الكوثر العدد الثالث - جمادي الثاني 1416 هـ
- السيّد جعفر الحلّي » مثل ابن فاطمة يبيتُ مشرّداً - مجلة الكوثر العدد الثالث - جمادي الثاني 1416 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
أفضل الصلاة وأزكى التحية على الحبيب المصطفى وآله خير البرية.
في هذا العالم الذي نعيش فيه، يجد الإنسان نفسه أمام بحر متلاطم من الأهواء والميول والافكار والأهداف والغايات و...، فإذا أراد بنفسه خيراً وعرف قيمة ما يحمله بين جنبتيه نجده يجهد في البحث عن سبيل يوصله إلى الكمال الذي يرتضيه وترتاح نفسه إليه. فإذا به أمام سبل متشاكسة متشعبة متضادة في بعض الأحيان ومتفقة في أخرى، ولكنه إن دقق النظر وأعمل الفكر لرأى بوضوح طريقاً منيراً تحفه الطهارة وتحيط به البراءة وغيره النقاء ويجلوه الصفاء وهو واحد فلا يتيه الإنسان في تشعباته وهو مستقيم فلا يحير الإنسان في إلتواءاته وهو فرد لا يشبهه طريق فيلتبس الأمر على الإنسان في إنتخابه وهو الطريق إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد. فإذا عرف الإنسان هذه الأمور في هذا السبيل وجد نفسه منشدة إليه مشتاقة إلى السير فيه فتأخذه بشوق وحماس فإذا سار فيه وجد نفحات رحمانية وشمات عطر قدسية من النفوس التي سلكت هذا الصراط قبله فبقيت شذى أنفاسها الملكوتية وعبير رشحات أرواحها المطهرة تأخذ بمجامع قلوب السالكين لهذا الطريق إلى حيث الفوز والكمال والطمأنينة.
وقد انتهينا في المقالات السابقة من استعراض بعض ما توصلنا إلى التماسه من هذه الرشحات الكريمة لثلاثة من الأسماء اللامعة في سماء العبودية وعلى وفق ما آلينا على أنفسنا من أن نحاول الإقتصار على ما أرشدنا إليه كتاب الله العزيز حول هذه الشخصيات المقدسة السالكة إلى رضوانه تعالى سيراً على الخطوط العريضة التي رسمتها لنا الشريعة العظيمة ـ ونحاول الآن أن نكمل هذا الملف المضيء بالأنوار الإلهية بالكلام عن الشخصية الرابعة في هذا المحفل المبارك من الغله العظيم، الشخصية التي أراد لها رب العزة أن تأتي بعد مقدمات كريمة وأن تولد بعد مخاض محفوف بالعناية الإلهية وأن تكون ولادتها مميزة على مدى التاريخ فكانت طاهرة مطهرة في كل المقاييس.
نعم، إنه المسيح عيسى ابن مريم روح الله وكلمته والبشارة النبوية وعصارة النبوة في بني إسرائيل وخاتمهم فيهم والمنقذ لهم من بعض ما ابتلوا به والمبشر بالمنقذ الحقيقي والخاتم لجميع الأنبياء والمرسلين (عليه وعليهم أفضل التحية والسلام).
يقدم الله سبحانه وتعالى لولادة المسيح× عدّة مقدمات، منها وجود ثلاثة معصومين أو فلنقل ثلاثة مؤيَدين مدعومين بالآيات ومسدَّدين من السماء ـ زكريا ويحيى ومريم^ ـ ليكونوا بتصديقهم إياه ودعمهم له وإسنادهم الدعامة القوية لدعوته×. بل إننا نجد إن الله عز وجل يحضِّر الإذهان ويوفِّر الأرضية المناسبة لحادث جلل كهذا ـ ولادة المسيح× من قبل ولادة أمّه، حيث تكون ولادة الأم الطاهرة والخصوصيّات التي كانت تحملها والأحداث التي سبقت حملها به×، من خطاب الملائكة لها وأمرهم لها عن رب العزة بالركوع والسجود ومن ثم إعتزالها لقومها وما ذكرناه سابقاً، كل هذا بالإضافة إلى ما لا نعلمه من الغيب الذي لا يعلمه إلّا هو سبحانه ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء(1) كاشفة عن بعض جنبات هذه الشخصية العظيمة التي نحن بصدد التعرف عليها من الآيات القرآنية التي تعرفها لنا.
الولادة الميمونة
كانت ولادة المسيح× ولادة فريدة في التاريخ البشري وغير خاضعة للقوانين الطبيعية المعروفة لدينا، من أن كل مولود بشري يجب أن ينحدر من أم وأب وقد بدأت هذه السلسلة البشرية من انجاب آدم وحواء، والدا البشر لأول مولودلهما إلى يوم يبعثون وهذا ما أراده الله سبحانه لهذا العالم الذي هو عالم الأسباب فقد قدَّر سبحانه أن يكون كل شيء معلول لعلة. ولكن هذه القاعدة التي وضعها الله سبحانه لا تعني أنه يستحيل عليه سبحانه أن يكسرها بل هو مسبب الأسباب من دون سبب وهذا هو بالضبط ما يحصل في المعاجز الإلهية حيث إنها تكسر القوانين الطبيعية التي يعجز جميع المخلوقين عن كسرها والإتيان بما يخالفها حيث أنهم خاضعين لها تحكمهم بقوانينها ولكن الخالق القادر إذا أراد أن يبين للبشر ان حكمته اقتضت مخالفتها فإن هذه القوانين الطبيعية على استحكامها وإتقانها بحيث لا يتصور أحد من المخلوقين معهما أوتي من قدرة وقوة أن يخرقها بل أن أعظم ما يمكن للبشر ان يدّعيه هو أنه إستطاع أن يكتشف هذه القوانين ويتعرف على مسارها وأن يستفيد من دقة إحكامها ليستغلها لتحقيق مآربه والوصول إلى غاياته ومصالحه ـ لا يمكن لها أن تقف حائلاً بين الخالق سبحانه وتحقيق غرضه بل هي مطيعة منفّذة لأوامره تتوجّه حيث شاء فهو واضعها ومبتدعها. وقد اقتضت الحكمة الإلهية لهذا المولود المبارك ان يُولد من دون أب، وهنا عدة محطات تستحق التوقف عندها فتعال معي أيها القارئ لنتأمل في العرض القرآني لقصة مولد المسيح×: ـ
المحور الأوّل: قبل الولادة
أن هذه الولادة كانت مسبوقة بمقدمات كثيرة ـ بالإضافة إلى المقدمات التي إشرنا إليها آنفاً ـ فكانت هذه المقدمات على أنواع ؛ فبعضها جاء لتحضير الأرضية الإجتماعية ولتحضير الذهنية العامة لإستقبال حدث كهذا، حيث قد تكون واحدة من هذه المقدمات هي ولادة يحيى× ونقصد هنا نفس ولادته× وحالة أبويه عند حمل أمه به من كبر سنهما وعقم أمه ـ حيث أن المعجزة في ولادة مولود من أبوين لم يرزقان بمولود في عنفوان شبابهما قد تكون مقدمة لولادة مولود من دون أب. والبعض الآخر جاء لتحضير أذهان الخاصة المحيطة بمريم’ كأن تكون ولادتها’ مسبوقة بنبؤة لأبيها عمران× من أن النبي الموعود سيكون من ذريته ولم يُرزق إلا مريم’ ومن ثم نذرها كخادمة للمعبد حيث كانت أول أنثى تخدم في المعبد ـ ومن ثم نداء الملائكة لها وأمرهم لها بالركوع مع الراكعين ـ وهذا أيضاً ما لم يعهد أن أمراءة قبل مريم’ قامت به ـ وكذلك الرزق الذي كان يأتيها في المحراب حيث قد يكون لهذا الرزق جانبين: الأول: تحضير أذهان الخاصة كما قلنا والثاني، تحضير مريم× وإعدادها لإحتضان هذا المولود المبارك في أحشائها ـ وهذا بالإضافة إلى أن إعتزالها عن قومها وإتخاذها حجاباً بينها وبينهم يذكرنا بما يُروى عن إعتزال النبي محمد| عن الجميع حتى عن خديجة’ والأكل من طعام الجنة قبيل ولادة الزهراء’ بأربعين يوماً.
بعد المقدمات التي قدمها سبحانه لولادة المسيح الموعود، اقترب وقت تحقيق العدة الإلهية وجاء زمان تكليف مريم العابدة المطيعة المهذبة بالمهمة المقدسة حيث شاءت الحكمة الإلهية أن يكون هذا التكليف والإبلاغ على يد ملك كريم ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾(2)، وهنا ينقل لنا القرآن الكريم في سورة مريم حواراً دار بين مريم’ والروح المتمثل على هيئة بشر حيث تتساءل مريم’ ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾(3)، وفي سورة آل عمران حواراً دار بين مريم’ والملائكة المبشرين لها بولادة المسيح× ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾(4)، وهذا الحوار يبدأ من جانب مريم’ بالإستفسار عن كيفية الحمل، فما هي حقيقة هذا الإستفسار؟ هل كان هذا جدلاً من مريم’ ومحاولة للتهرب والتملص من هذه المهمة التي أراد لها بارئها القيام بها؟! كلا وألف كلا بل حتى أن الأمر يعد وكونه أمراً طبيعياً خصوصاً عندما يصدر من مريم’ المطيعة المذعنة للأوامر الإلهية وهي التي لم تسأل ولم تتهرب عند ما طلب منها ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(5).
وأن هذا يكون بعد أن عرفت أنه أمر إلهي ! فإذا قلنا بأن هذا كان لصعوبة الموقف فان رجوعها بالمولود إلى قومها أصعب وأصعب (وهذا ما سنقف عليه لاحقاً). ولكن سؤالها قد يكون والله العالم ـ لمعرفة الكيفية وهي العالمة بأنه ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(6). ولكنها أرادت الإستفسار فلما جاءها الجواب بأنه ﴿ وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾(7).
وهو على ما يقول بعض المفسرين بأن نفس الملك لم يكن يعلم بالكيفية، فلما علمت بأنه من أمر الله سبحانه كفت عن السؤال واستعدت لتلقي هذه المهمة الإلهية العظمى، وهنا نجد أنفسنا أمام عدة أُمور تستحق التأمل: ـ
الأمر الأول: تقارن إستخدام كلمة (الأمر) عند الحديث عن عيسى× وذلك في عدة مواضع من القرآن الكريم
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(8). ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾(9). فخلق عيسى× كان من باب الأمر الإلهي.
الأمر الثاني: تقسم الأفعال الإلهية إلى عالمي الأمر والخلق حيث تتم في عالم الخلق وفقاً للقوانين المادية الطبيعية فلا تجري الأمور إلّا بأسبابها أما في عالم الأمر فلا يحتاج الفعل ليخرج إلى الوجود إلى المقدمات الطبيعية والأسباب المادية بل يكون ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾(10)، وهكذا كان الأمر بالنسبة للحمل وما يؤيد ذلك تسلسل الأحداث في هذه القصة القرآنية للولادة المعجزة فلا بيان للكيفية وإنما نجد أن الحدث التالي هو فحملته ولا يوجد فاصل بين سؤال مريم’ والجواب الذي تلقته وبين الحمل.
الأمر الثالث: يسوقنا السياق القرآني إلى المقارنة بين كيفية الحمل بيحيى× والحمل بعيسى× فذكرهما في موقعين من القرآن الكريم بصورة مترادفة ومتشابهه في السرد يجرّنا بالإضافة إلى ما استخلصناه في مقالات سابقة إلى أن نقارن بين الحملين، فسبحانه وتعالى عندما يجيب على تساءل زكريا× عن الكيفية يقول بأنه ﴿ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾(11)، ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾(12) فالحمل بيحيى× مع أنه معجزة ـ هو فعل إلهي من نوع الخلق بينما نجد الجواب مختلفا تماماً عند ما يكون الكلام عن الحمل بعيسى× ﴿... وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾(13)﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(14)﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(15) فهو فعل إلهي من نوع الأمر، بل الأمر المقضيّ الذي لا عودة فيه ولا رادّ له وهو من نوع (كن فيكون) فلا كيفية ولا أسباب مادية ولا مقدمات عادية.
الأمر الرابع: المقارنة بين خلق عيسى× وخلق أبينا آدم×، حيث يذكر لنا سبحانه وتعالى وجهاً للشبه بين الخلقتين ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾(16).
فهو القادر الذي لا حد لقدرته وهو خالق القوانين وقد شاءت حكمته أن تكون خلقة أول البشر ووالدهم من تراب فكان أول السلسلة البشرية ثم اقتضت حكمته ان يتولد كل إنسان من بعد آدم وحواء من أب وأم فكان له ما أراد وجرى ما قدر وسرى قضائه في خلقه فلا راد لقضائه ثم اقتضت حكمته ان يولد في وسط هذه السلسلة البشرية ولد من دون أب وليس هذا مورداً من موارد التعجب فهو الخالق لما يريد والموجد لما يشاء، فليس بين إرادته للأشياء وبين وجودها حائل يمكن أن يحدّ من قدرته وليس بين تحقيق ما يريد وبين إرادته إلا قول (كن فيكون) وهذا طبعاً من باب تقريب المطلب للأذهان وإلا فليس يُتصوّر أنّ الأمر متوقّف على صدور هذه الكلمة (كن) وبين الكينونة وإنما هو أقرب من هذا ولا فاصل بين الإرادة والكينونة وإنما المشكلة هي في ضيق أفق تعقّل من لا يمكنه تصوّر أمور كهذه وغيرها كثير فالعبد يجب أن يتخلّص من الأطُر المادية الضيّقة لكي يتسنّى له التحليق في سماء المعنى الواسعة فإذا أمكنه هذا وأحسّ باللذة من هذا التحليق فعندها يصبح الهبوط إلى القفص الضيق صعباً وهذا ما نراه من حالات العرفاء السالكين.
الأمر الخامس: ﴿ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ وهل يمكن للمؤمن الواعي المدرك لعظمته سبحانه وتعالى أن يتصوّر عظيماً من الأمور وصعباً على الخالق القادر المتعال؟! وهنا نجد تكرّر هذه العبارة عند العرض القرآني لقصّتي ولادة يحيى× وولادة المسيح× فالحملين وإن اختلفا في الطريقة وفي الكيفية ومع كون أحدها من عالم الخلق والآخر من عالم الأمر ولكن كليهما على الله الله الخالق القادر على كل شيء الذي خضعت له الأمور بأزّمتها، كلا الخلقين عليه سبحانه سهل يسير (ذلت لقدرتك الصعاب وتسببت بلطفك الأسباب وجرى بقدرتك القضاء ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشئتك دون قولك مؤتمر، وبإرادتك دون نهيك منزجرة) (17).
المحور الثاني: فترة الولادة المباركة
فصّلنا الكلام عند الحديث عن مريم’ عن حملها وولادتها ونريد الآن أن نسترشرف بعض الرشحات من السرد القرآني للموقف من زاوية أُخرى ألا وهو زاوية نفس الوليد المبارك. فكلنا يعرف بأن الحالة الروحية والمعنوية للأم الحامل لها أكبر الأثر على جنينها ـ وقد فصلنا الكلام حول حالة أم مريم’ وتأثيرها على جنينها المبارك ـ ومريم’ الآن وقد أخذ الطلق وأجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهي وحيدة تعاني الآم المخاض وتستشعر قرب وضعها لحملها المبارك يَعصف بها الحزن فما هو سبب حزنها’ فهي الصديقة وهي المطيعة وهي الواثقة من نصر الله عز وجل لعباده الصالحين، ولا يوجد إعتبار للأمور الأخرى كافتقادها لمن يعينها في الولادة حيث ان هذه الأمور على أهميتها لدى النساء العاديات ولكنها عند مريم’ التي عودت نفسها على التضحية والصبر وقدمت القرابين لله الواحد الأحد وأول هذه القرابين هي نفسها وابنها خصوصاً إذا أخذنا بنظر الإعتبار الوعد الإلهي والمقامات التي بشرتها بها الملائكة بأن وليدها سيكون حائزاً لها وبالذات تكليمه للناس وهو في المهد، فما هو سبب الحزن إذاً؟
قد يكون الجواب ما فصلنا الكلام فيه عند الحديث عن الصديقة مريم’ من إهتمامها لأجل قومها وكيفية تلقيهم لهذه المعجزة الربانية وخوفها وإشفاقها عليهم والله العالم ولكن ما يهمنا هو ردة فعل وليدها المساند لها في هذه المهمة التي بدأت أولى معالمها بالحمل به× فهنا يأتي كلامه كالماء على النار لطيفاً هادئاً مهدئاً من روع أمه مطمئناً لها مبعداً عنها الحزن والهم والغم، فهذه الأم المقدسة لا يحب لها أن تحزن ولا يراد لها أن تهتم بل يجب أن تستبشر وتقر عينها ويرتاح بالها وتطمئن نفسها وتستعد لتكملة المسيرة المقدسة فهي يجب أن تكون مرتاحة لتؤدي مهمتها على أحسن وجه ويجب أن تكون مطمئنة لتواجه قومها بأفضل مواجهة ويجب أن تكون مسرورة مستبشرة بنصر الله وتأييده وقبل كل شيء يجب أن تكون هادئة البال مرتاحة الخاطر لتحتضن وليدها العزيز وتغذيه من عصارة روحها لبناً مغذياً مقوياً معطراً بعطر الإيمان ومطعماً بطعم الطمأنينة والعافية.
فيأتيها صوته المبارك منادياً لها ﴿... أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ﴾ (18).
فكأنه يقول لها يا أماه، دعي الحزن والهم والغم جانباً فلديك تكليف أهم.
ما أعذبه من صوت وألطفه من تعبير، وما أجملها من كلمات ينطق بها هذا الوليد المبارك في أول لحظات عمره!! كيف كان إحساس هذه الصديقة الطاهرة بهذا الوليد المقدس؟! كيف كان إحساسها في تلك اللحظة القدسية؟! إنه موقف يفوق الوصف فالأم وكل أم في تلك اللحظات ـ اللحظات الأولى بعد الولادة ـ تجرب إحساساً خاصاً ومع أنه يتكرر عند كل ولادة ومع هذا فهو غير قابل للوصف ولا تستطيع الكلمات أن تعبر عنه فكيف بهذه الصديقة الطاهرة وهي التي جربت ما لم تجربه غيرها على مدى التاريخ ما مضى وما سوف يأتي؟! هذا ما لا يستطيع دركه أحد إلا هي وخالقها فسلام عليها وعلى إبنها وعلى من بشر به إبنها.
هذه الكلمات الأولى التي نطق بها المسيح× تحمل كثيراً من المعاني وقد استفاد منها الكثيرون، حيث ذكروا في ذلك تسليط القرآن الكريم الضوء على حالة الأم الروحية عند الحمل وبعد الولادة وعند الإرضاع وكذلك أهمية وجودها عند الولادة قريباً من الماء وكذلك أكل الرطب وكيف أنه يسهل الولادة ويقوي الأم ويفيد في الرضاعة وما إلى ذلك من النقاط المميزة والتي تستحق التأمل والإتباع ولكننا نضيف هنا أن نفس هذا الكلام كان له تأثير كبير ـ حتماً ـ على روح ونفس مريم’ فإحساس الأم بأن حزنها وألمها هي أمور مهمة ومُدركة من قبل الطفل وإحساسها بتعاطفه معها يطمئن قلبها ويشد من أزرها ووجوده× معها وتأييده وإسناده لها في هذه المهمة العظيمة يترك انطباعاً لطيفاً رائعاً يقوي من عزيمتها ويعينها على تكملة المسيرة بروح أكثر مضياً وإقداماً وإيماناً ورسوخاً على طريق الحق.
المحور الثالث: بعد الولادة
يعطي الوحي الإلهي ـ على لسان المسيح× تكاليفاً جديدة وخطأً واضحاً لمريم’ لتسير عليه. وفي هذا المقطع من حياتهما÷ نجد محطّات تستحق التوقف عندها: ـ
المحطة الأولى:
مريم’ المحدثة من قبل الملائكة والتي كانت التكاليف والأوامر الإلهية تأتيها عن طريق الملائكة فإذا بها بعد ولادة المسيح× تصلها التكاليف عن طريق وليدها المبارك، فما هو موقفها من هذا التحول؟ هل هو الإعتراض والترديد والشك؟ كلا، فلم ينقل لنا القرآن الكريم عنها إلا التسليم والإطاعة المطلقة الخالصة الخالية حتى عن التساؤل والإستفسار. وهذا في حد ذاته فيه من الدلالة على الخضوع والتسليم الشيء الكثير حيث أنه في الطرف المقابل، نجد أن الكثير قد أنزلقت أقدامهم في هكذا إمتحانات وهو في السحيق نتيجة الكبر والغرور اللذان قد يعترضان طريق الإنسان في منعطفات كهذه ولكن مريم المقدسة’ ثبتت وانتصرت على هوى النفس التي وطنتها وعلمتها من قبل على التسليم والإنقياد لكل ما يصدر من الحضرة الإلهية ولهذا كبير الأثر على وليدها المبارك الذي سينطلق من هذه الأرضية الجليلة والتربة الخصبة إلى آفاق الملكوت.
المحطة الثانية:
التكاليف الإلهية في هذا المقطع تكاليف متنوعة شاملة فهي تبدأ بالحالات الروحية لمريم’ من تطمينها ونفي الحزن عنها إلى العناية الخاصة بها وإجراء الكرامات على يديها من إثمار النخلة الخاوية وإجراء الماء ﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ﴾﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ. يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ (19). إلى الإهتمام بها جسدياً من ناحية الغذاء والشراب ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ﴾ إلى تلقينها كيفية المواجهة مع أبناء جلدتها بعد ولادتها’ ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ﴾ (20).
إلى تعليمها كيفية التعامل مع إتهامات قومها لها ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ (21).وهنا نجد عدة ديدث الله سبحانه وتعالى مع عباده فهو يكلفهم التكاليف المتوافقة مع خلقتهم التي خلقهم عليها حيث شاءت قدرته أن يكون وجوده مزيجاً من الروح والجسد فتكون تكاليفه شاملة لكلا البعدين من الوجود الإنساني.
التكاليف الإلهية تتناسب مع المكلف تناسباً واضحاً جلياً
فالله العالم بكل شيء المحيط بجميع دقائق ما خلق لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا يكلف نفساً إلا ما آتاها وقد سبق علمه بأن أفضل ما يمكن أن تواجه مريم’ به قومها بعد أن جاءتهم وهي تحمل الوليد المبارك هو أن تكون صانعة صوم السكوت وأن يقوم وليدها بمهمة تبيين الحقائق وكشف ما لبس على القوم وإظهار شمس الحقيقة ساطعة غير محجوبة بسُحُب ولا غبار.
النتيجة الحتمية والتي لا تتخلف عن مقدماتها لأداء التكاليف الإلهية مهما كانت في الظاهر صعبة شاقة ـ وهذا في الظاهر لأنه في الحقيقة وكما أسلفنا هي متناسبة مع المكلف فهو قادر على أدائها وإلّا لما توجهت إليه ولهذا تسقط التكاليف عن العاجز عنها بمجرد طروء العجز ـ فعندما يسلم المكلف لصاحب القدرة اللامتناهية بكل وجوده ويؤدي تكليفه الملقى على عاتقه، نجد النصر، والتأييد الإلهي قريب بلا فصل ولا تأخير ويتبعه المدح والثناء الإلهي، وهذا الأمر لا يختص بعباد الله الصالحين في أصل الأمر وحقيقته وإن كان يختص بهم في واقع الأمر وحصيلته وذلك لسبب بسيط جداً وهو أن هذه المقدمات كانوا هم السبب في إيجادها فإيجادهم لها هو الذي جعلهم موضعاً لحصول النصرة والتأييد ومحلاً للتكريم والتبجيل الإلهي لهم وهو الذي جعلهم الخاصة والصالحين من عباده عز وجل وإلا فالرب الرحيم يريد لعباده جميعاً أن يحصلوا على هذه المقامات الكريمة ولكنه سبحانه ارتأى أن يكون هذا بإختيارهم ليكونوا أهلاً للفوز وقطباً للرحمة، فيفضيها عليهم بجوده وكرمه.
إن إجراء التكاليف في هذا المقطع على لسان المسيح× مع بني إسرائيل ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾(22). وهذا ما تعتقده الشيعة بالنسبة للأئمة^ فليس هناك شرط عمري ولا تحصيل للمقدمات التي تفترض مع غيرهم. وكذلك يدل على أن مريم’ مع ما بلغته من مقامات هي مطيعة لهذا الولي وهذا ما يذكرنا بموقف زينب’ مع الإمام السجاد× بعد واقعة عاشوراء.
المتأمل للآيات الكريمة التي تسرد لنا هذا المقطع بالذات، يجد أن هناك تكاليف صادرة من دون ذكر لرد فعل مريم’ ـ كأن تكون هناك إشارة بأنها أطاعت أم لم تطع وعمل لمريم’ من دون ذكر نفس التكليف الذي دعاها إلى ذلك العمل ولكنه لا يوجد فاصل وحد يحد بين صدور التكليف وبين طاعة مريم’ فصدور التكليف يدل على طاعة مريم’ وتحقق الفعل الذي دعى إليه التكليف وصدور الفعل منها’ يدل على صدور التكليف فعندما يقول سبحانه ناقلاً لقول المسيح× ﴿ أَلاَّ تَحْزَنِي ﴾، فهذا يدل على أنها نفضت غبار الحزن عنها وعندما يقول× ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ فهذا يعني أنها قامت بهز جذع النخلة فلا يعقب بالعمل الذي أمرها به وبأنها قامت به وهكذا دواليك وفي الجهة المقابلة عندما ينتقل إلى إمتثالها للأوامر الإلهية التي ينقلها لها وليدها المبارك وبإسلوب البلاغة القرآنية المنقطع النظير الذي ينقل القارئ والمستمع للآيات القرآنية في هذه الأجواء الممتعة للقصة الواقعية وفي ذروة الحبك القصصي حيث تحبس الأنفاس بانتظار الحدث المهم ألا وهو الولادة المباركة ومن بعدها مواجهة بني إسرائيل بالمسيح× لأول مرة عندما نصل إلى موقف إتيانها به× إلى قومها نجد أن القرآن الكريم لا يذكر الأمر لها بالإتيان به إلى القوم في هذه الصورة ولكن نفس إتيانها به يدل على أنها تلقت الأمر بذلك وهذا هو عين التسليم والخضوع والعبودية للمولى الحق وهذه هي القدوة التي يقدمها لنا الله سبحانه والأسوة الحسنة التي تستحق الإتباع للوصول إلى السعادة الحقيقية فالعبد لا يسعد ولا يطمئن إلّا بطاعته لمولاه العزيز الرحيم ولا يكون له ذلك إلّا إذا أحس بحقيقة العبودية بجميع دقائق وجوده وجسدها في كل تجلي من تجليات سلوكه، في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وفي سريرته وعلانيته، فكان هؤلاء السالكين في هذا الطريق أهلاً لأن يباهي الله سبحانه بهم أمام عباده ويشيد بمواقفهم وتصرفاتهم التي بنيت ما خفي علينا من إيمانهم وتقواهم وإعتقاداتهم الحقة.
المحور الرابع: مواجهة بني إسرائيل
تكون اللحظات الأولى من حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة لحظات متميزة حيث يواجه هذا العالم المختلف كلياً عن العالم الذي ألفه في رحم أمه وبما أن هذا العالم يختلف عن سابقه فطريقة العيش فيه أيضاً تختلف فهو هنا بحاجة لأن يتنفس برئتيه التي كانت حتى الدقائق القريبة الماضية مليئة بسائل لزج فيجب أن يخرج هذا السائل ويحل محله الهواء وهي عملية شاقة تدعو الطفل حديث الولادة إلى البكاء والصراخ ليقوم بهذه العملية على أحسن وجه وقس على ذلك بالنسبة لباقي فعالياته الحيوية الأخرى وفي الطرف المقابل نجد الأم تقضي لحظات مميزة هي الأخرى فهي تحتضن وليدها الذي كان قبل هذا ينعم بالهدوء والإستقرار في أحشائها فهي الآن تريد أن تحتضنه وتشعره بالأمان والطمأنينة وراحة البال وتريد أن ترضعه فتغذيه من عصارة روحها لبناً سائغاً هنيئاً مريئاً، فكيف كان الأمر بهذا الأم المميزة ـ مريم’ ووليدها المميز هو الآخر؟! إنها لحظات يصعب وصفها وهما الآن على أعتاب مهمة أخرى غاية في الحساسية والخطورة ألا وهي مواجهة بني إسرائيل بهذا الحدث الجلل ـ ولادة المسيح× من غير أب ـ وهم على ما هم عليه سنفصل الكلام فيه فيما سياتي من نقاط ولكن ما نريد الكلام عنه الآن هو نفس الوليد المبارك ـ المسيح× فقد كانت أولى أيام عمره الشريف مليئة بالمواقف الصعبة والتحديات العظيمة والمواجهات الحاسمة، فكان وأمه آيتان ربانيتان لمن أراد السير على الصراط الإلهي المستقيم.
النقطة الأولى:
إن الكلام الذي ينطق به البشر هو موهبة إلهية عظمى ﴿الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾(23).
فهو بيان، بيان لماذا؟ هو بيان لما يجول في نفس الإنسان ويعتقده في ضميره، فهو يكشف عن حقيقة إعتقاداته، إن كان صادقاً طبعاً وهنا ـ بالنسبة إلى المسيح× فصدقه× أمر محرز موثوق حيث يخبرنا الله سبحانه ـ خير مخبر ـ معقباً على كلامه× ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾(24).فهو× قول الحق وليس فقط كلامه هو الحق والصدق ويحدثنا سبحانه في موضع آخر واصفاً صدقه× ﴿ قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾(25)، فهو× الصادق في جميع أقواله في الدنيا والآخرة فإستحق أن يشيد الله سبحانه وتعالى به على رؤوس الأشهاد. وكانت هذه الصفة العظيمة ـ صفة الصدق ـ هي مما ورثه× من أمه الصديقة’ ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾(26)، (وخير ما ورث الآباء الأبناء الأدب) (27)، فماذا كان أول كلام نطق به هذا السيد العظيم والنبي الكريم مع قومه؟
النقطة الثانية: العبودية
هذه الصفة العظيمة والكمال الحقيقي للإنسان فإذا أحس بها وأدها حقها قادته إلى قمة الكمال الإنساني ألا وهي كمال العبودية للمولى الحق، فكانت صفة يفتخر بها عباد الله المصطفون وأولياؤه المقربون وهي التي متى ما اكتسبها العبد كانت الملاك في اجتنائه والمناط في اختياره من قبل المولى عز وجل وكانت القائد له لرقي درجات العلى والوصول إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. وهنا ـ في مورد كلمنا ـ كان أول ما نطق به هذا المولود المبارك وخاطباً قومه المبهوتين أمام هذه المعجزة الربانية ـ تكلم الوليد في المهد ـ وقاطعاً السبيل بالبرهان والدليل الدامغ على من سوف يدعي ألوهيته× فيما بعد، واصفاً نفسه بأنه عبد الله ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ﴾(28)، فكانت هذه الصفة بحق سبباً لوجاهته في الدنيا والآخرة ولقربه من المولى عز وجل ﴿ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَالْمُقَرَّبِينَ ﴾(29)، وكانت العلامة الواضحة والبرهان الساطع على صدقه في أنه لم ولن يدعي الألوهية أو أي مرتبة أخرى لا تليق بهذا الكمال ـ كمال العبودية ـ وفي افتتاحه× كلامه واصفاً نفسه بالعبد لله عز وجل وفي اي مقام كان فيه الكلام وباقي الصفات التي وردت على لسانه× في هذا الموقف بحث طويل نعد القارئ الكريم بمواصلته في المقالة اللاحقة انشاء الله.
وهذا الكمال هو الذي يؤهل العبد لنيل المناصب الإلهية وما كانت الإبتلاءات والإمتحانات الإلهية إلّا لبيان ما يصل إليه العبد من مقامات معنوية ولتقوية حصانته أمام إغراءات الدنيا وهو النفس ووساوس إبليس اللعين. ولا يهم متى يصل العبد إلى هذا المقام. في مدة عمره في هذا الدنيا ـ ولا كيف لأن هذا لا يؤثر كثيراً على النتيجة المتوخاة واللذة المستشعرة من هذا الوصول ـ وإن كان لها تأثيرها الحتمي من نواح أخرى والتي تكون واحدة منها التفاضل بين هؤلاء العباد على سبيل المثال ـ ولكن المهم هو نفس الوصول ونيل الحضرة عند ساحة القدس الإلهية، وهنا في مورد بحثنا هذا شخصية المسيح× كان هذا الوصول إلى هذا المقام العالي ـ مقام كمال العبودية ـ عند ولادته المباركة وكان أول ما نطق به× مع قومه هو إعترافه× بعبوديته لمولاه الحق مفتخراً بهذه العبودية التي تعطي الإنسان العز الحقيقي (الهي كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً وكفى بي عزاً أن تكون لي رباً) (30)،وداعياً الناس خصوصاً من اعتقد به ومن رأى معجزاته إلى إستشعارها والسعي إلى الوصول إليها وليس هناك دليل على أن وصول عيسى× إلى هذا المقام في هذه السن المبكر، كان من اختصاصاته× ولكن وصوله إلى هذا المقام ووجود الدليل القرآني على ذلك يعد دليلاً دامغاً على إمكان وصول نبينا الأكرم محمد| وأهل بيته الكرام الذين خصوا على كل ما حضى عليه من سبقهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا ما يشرح ويؤيد الروايات التي تصف حالاتهم أو كلامهم^ عند ولاداتهم المباركة، فتأمل. (وفي افتتاحه× كلامه واصفاً نفسه بالعبد لله عز وجل وفي أي مقام كان فيه الكلام وباقي الصفات التي وردت على لسانه× في هذا الموقف بحث طويل نعد القارئ الكريم بمواصلته في المقالة اللاحقة إنشاء الله).
النقطة الثالثة:
ونختم هنا الكلام بما ختم به المسيح عيسى بن مريم× كلامه به، ﴿ وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾(31)، فأي سلام هذا الذي يخص به روح الله× به نفسه الزكية في هذه المواطن الثلاثة، المواطن التي تتوق فيها النفس إلى السلام!! ومن أي جنس يكون هذا السلام من هذه الشخصية المباركة المقدسة في جميع أبعادها وجميع دقائق وجودها!! وما هو جوهر هذا الكلام المبارك الذي نطق به هذا الوليد المبارك ليكون فاتحة كلامه مع قومه، هؤلاء القوم الذين كانت لهم خصوصيات قل نظيرها في غيرهم وكان هو سلام الله عليه آخر مَن أرسل إليهم ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنبَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...﴾(32)، وهو الذي يعلق الله عز وجل على كلامه لأول مرة مع قومه ـ بأنه ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾(33)، تساؤلات تلح على ذهن القارئ والمتأمل للقرآن الكريم توحي بحد ذاتها بعظمة هذه الشخصية وعظمة مواقفها فيما كان وفيما سيكون، جعلنا الله من السائرين على خطاها والمستنيرين بأنوارها في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.
--------------
(الهواش)
1 -. البقرة: الآية 255.
2 -. سورة مريم: الآية 17.
3 -. سورة مريم: الآية 20.
4 -. سورة آل عمران: الآية 47.
5 -. سورة آل عمران: الآية 43.
6 -. سورة الأنبياء: الآية 23.
7 -. سورة مريم: الآية 21.
8 -. سورة آل عمران: الآية 47.
9 -. سورة مريم: الآية 21.
10 -. سورة يس: الآية 82.
11 -. سورة آل عمران: الآية 40.
12 -. سورة مريم: الآية 9.
13 -. سورة مريم: الآية 21.
14 -. سورة مريم: الآية 35.
15 -. سورة آل عمران: الآية 47.
16 -. سورة آل عمران: الآية 59.
17 -. الصحيفة السجادية: دعاؤه في المهمات.
18 -. سورة مريم الآيات 24، 25، 26.
19 -. سورة المؤمنون: الآية 50 و51.
20 -. سورة مريم: الآية 26.
21 -. سورة مريم: الآية 29.
22 -. سورة مريم الآية: 30.
23 -. سورة الرحمن الآيات: 1،2، 3.
24 -. سورة مريم: الآية 34.
25 -. سورة المائدة: الآية 119.
26 -. سورة المائدة: الآية 75.
27 -. عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الوافطي، ص240ـ موسوعة أحاديث أهل البشارة، هادي النجفي، ح1، ص172ـ ميزان الحكمة ـ محمدي ري شهري، ح1، ص52 ـ غرر الحكم الامدي: ح5036.
28 -. سورة مريم: الآية 30.
29 -. سورة آل عمران: الآية 45.
31 -. سورة مريم: الآية 33.
32 -. سورة الصف: الآية 6.
33 -. سورة مريم: الآية 34.
أفضل الصلاة وأزكى التحية على الحبيب المصطفى وآله خير البرية.
في هذا العالم الذي نعيش فيه، يجد الإنسان نفسه أمام بحر متلاطم من الأهواء والميول والافكار والأهداف والغايات و...، فإذا أراد بنفسه خيراً وعرف قيمة ما يحمله بين جنبتيه نجده يجهد في البحث عن سبيل يوصله إلى الكمال الذي يرتضيه وترتاح نفسه إليه. فإذا به أمام سبل متشاكسة متشعبة متضادة في بعض الأحيان ومتفقة في أخرى، ولكنه إن دقق النظر وأعمل الفكر لرأى بوضوح طريقاً منيراً تحفه الطهارة وتحيط به البراءة وغيره النقاء ويجلوه الصفاء وهو واحد فلا يتيه الإنسان في تشعباته وهو مستقيم فلا يحير الإنسان في إلتواءاته وهو فرد لا يشبهه طريق فيلتبس الأمر على الإنسان في إنتخابه وهو الطريق إلى الله الواحد الأحد الفرد الصمد. فإذا عرف الإنسان هذه الأمور في هذا السبيل وجد نفسه منشدة إليه مشتاقة إلى السير فيه فتأخذه بشوق وحماس فإذا سار فيه وجد نفحات رحمانية وشمات عطر قدسية من النفوس التي سلكت هذا الصراط قبله فبقيت شذى أنفاسها الملكوتية وعبير رشحات أرواحها المطهرة تأخذ بمجامع قلوب السالكين لهذا الطريق إلى حيث الفوز والكمال والطمأنينة.
وقد انتهينا في المقالات السابقة من استعراض بعض ما توصلنا إلى التماسه من هذه الرشحات الكريمة لثلاثة من الأسماء اللامعة في سماء العبودية وعلى وفق ما آلينا على أنفسنا من أن نحاول الإقتصار على ما أرشدنا إليه كتاب الله العزيز حول هذه الشخصيات المقدسة السالكة إلى رضوانه تعالى سيراً على الخطوط العريضة التي رسمتها لنا الشريعة العظيمة ـ ونحاول الآن أن نكمل هذا الملف المضيء بالأنوار الإلهية بالكلام عن الشخصية الرابعة في هذا المحفل المبارك من الغله العظيم، الشخصية التي أراد لها رب العزة أن تأتي بعد مقدمات كريمة وأن تولد بعد مخاض محفوف بالعناية الإلهية وأن تكون ولادتها مميزة على مدى التاريخ فكانت طاهرة مطهرة في كل المقاييس.
نعم، إنه المسيح عيسى ابن مريم روح الله وكلمته والبشارة النبوية وعصارة النبوة في بني إسرائيل وخاتمهم فيهم والمنقذ لهم من بعض ما ابتلوا به والمبشر بالمنقذ الحقيقي والخاتم لجميع الأنبياء والمرسلين (عليه وعليهم أفضل التحية والسلام).
يقدم الله سبحانه وتعالى لولادة المسيح× عدّة مقدمات، منها وجود ثلاثة معصومين أو فلنقل ثلاثة مؤيَدين مدعومين بالآيات ومسدَّدين من السماء ـ زكريا ويحيى ومريم^ ـ ليكونوا بتصديقهم إياه ودعمهم له وإسنادهم الدعامة القوية لدعوته×. بل إننا نجد إن الله عز وجل يحضِّر الإذهان ويوفِّر الأرضية المناسبة لحادث جلل كهذا ـ ولادة المسيح× من قبل ولادة أمّه، حيث تكون ولادة الأم الطاهرة والخصوصيّات التي كانت تحملها والأحداث التي سبقت حملها به×، من خطاب الملائكة لها وأمرهم لها عن رب العزة بالركوع والسجود ومن ثم إعتزالها لقومها وما ذكرناه سابقاً، كل هذا بالإضافة إلى ما لا نعلمه من الغيب الذي لا يعلمه إلّا هو سبحانه ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء(1) كاشفة عن بعض جنبات هذه الشخصية العظيمة التي نحن بصدد التعرف عليها من الآيات القرآنية التي تعرفها لنا.
الولادة الميمونة
كانت ولادة المسيح× ولادة فريدة في التاريخ البشري وغير خاضعة للقوانين الطبيعية المعروفة لدينا، من أن كل مولود بشري يجب أن ينحدر من أم وأب وقد بدأت هذه السلسلة البشرية من انجاب آدم وحواء، والدا البشر لأول مولودلهما إلى يوم يبعثون وهذا ما أراده الله سبحانه لهذا العالم الذي هو عالم الأسباب فقد قدَّر سبحانه أن يكون كل شيء معلول لعلة. ولكن هذه القاعدة التي وضعها الله سبحانه لا تعني أنه يستحيل عليه سبحانه أن يكسرها بل هو مسبب الأسباب من دون سبب وهذا هو بالضبط ما يحصل في المعاجز الإلهية حيث إنها تكسر القوانين الطبيعية التي يعجز جميع المخلوقين عن كسرها والإتيان بما يخالفها حيث أنهم خاضعين لها تحكمهم بقوانينها ولكن الخالق القادر إذا أراد أن يبين للبشر ان حكمته اقتضت مخالفتها فإن هذه القوانين الطبيعية على استحكامها وإتقانها بحيث لا يتصور أحد من المخلوقين معهما أوتي من قدرة وقوة أن يخرقها بل أن أعظم ما يمكن للبشر ان يدّعيه هو أنه إستطاع أن يكتشف هذه القوانين ويتعرف على مسارها وأن يستفيد من دقة إحكامها ليستغلها لتحقيق مآربه والوصول إلى غاياته ومصالحه ـ لا يمكن لها أن تقف حائلاً بين الخالق سبحانه وتحقيق غرضه بل هي مطيعة منفّذة لأوامره تتوجّه حيث شاء فهو واضعها ومبتدعها. وقد اقتضت الحكمة الإلهية لهذا المولود المبارك ان يُولد من دون أب، وهنا عدة محطات تستحق التوقف عندها فتعال معي أيها القارئ لنتأمل في العرض القرآني لقصة مولد المسيح×: ـ
المحور الأوّل: قبل الولادة
أن هذه الولادة كانت مسبوقة بمقدمات كثيرة ـ بالإضافة إلى المقدمات التي إشرنا إليها آنفاً ـ فكانت هذه المقدمات على أنواع ؛ فبعضها جاء لتحضير الأرضية الإجتماعية ولتحضير الذهنية العامة لإستقبال حدث كهذا، حيث قد تكون واحدة من هذه المقدمات هي ولادة يحيى× ونقصد هنا نفس ولادته× وحالة أبويه عند حمل أمه به من كبر سنهما وعقم أمه ـ حيث أن المعجزة في ولادة مولود من أبوين لم يرزقان بمولود في عنفوان شبابهما قد تكون مقدمة لولادة مولود من دون أب. والبعض الآخر جاء لتحضير أذهان الخاصة المحيطة بمريم’ كأن تكون ولادتها’ مسبوقة بنبؤة لأبيها عمران× من أن النبي الموعود سيكون من ذريته ولم يُرزق إلا مريم’ ومن ثم نذرها كخادمة للمعبد حيث كانت أول أنثى تخدم في المعبد ـ ومن ثم نداء الملائكة لها وأمرهم لها بالركوع مع الراكعين ـ وهذا أيضاً ما لم يعهد أن أمراءة قبل مريم’ قامت به ـ وكذلك الرزق الذي كان يأتيها في المحراب حيث قد يكون لهذا الرزق جانبين: الأول: تحضير أذهان الخاصة كما قلنا والثاني، تحضير مريم× وإعدادها لإحتضان هذا المولود المبارك في أحشائها ـ وهذا بالإضافة إلى أن إعتزالها عن قومها وإتخاذها حجاباً بينها وبينهم يذكرنا بما يُروى عن إعتزال النبي محمد| عن الجميع حتى عن خديجة’ والأكل من طعام الجنة قبيل ولادة الزهراء’ بأربعين يوماً.
بعد المقدمات التي قدمها سبحانه لولادة المسيح الموعود، اقترب وقت تحقيق العدة الإلهية وجاء زمان تكليف مريم العابدة المطيعة المهذبة بالمهمة المقدسة حيث شاءت الحكمة الإلهية أن يكون هذا التكليف والإبلاغ على يد ملك كريم ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً﴾(2)، وهنا ينقل لنا القرآن الكريم في سورة مريم حواراً دار بين مريم’ والروح المتمثل على هيئة بشر حيث تتساءل مريم’ ﴿ قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً ﴾(3)، وفي سورة آل عمران حواراً دار بين مريم’ والملائكة المبشرين لها بولادة المسيح× ﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ ﴾(4)، وهذا الحوار يبدأ من جانب مريم’ بالإستفسار عن كيفية الحمل، فما هي حقيقة هذا الإستفسار؟ هل كان هذا جدلاً من مريم’ ومحاولة للتهرب والتملص من هذه المهمة التي أراد لها بارئها القيام بها؟! كلا وألف كلا بل حتى أن الأمر يعد وكونه أمراً طبيعياً خصوصاً عندما يصدر من مريم’ المطيعة المذعنة للأوامر الإلهية وهي التي لم تسأل ولم تتهرب عند ما طلب منها ﴿ يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾(5).
وأن هذا يكون بعد أن عرفت أنه أمر إلهي ! فإذا قلنا بأن هذا كان لصعوبة الموقف فان رجوعها بالمولود إلى قومها أصعب وأصعب (وهذا ما سنقف عليه لاحقاً). ولكن سؤالها قد يكون والله العالم ـ لمعرفة الكيفية وهي العالمة بأنه ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾(6). ولكنها أرادت الإستفسار فلما جاءها الجواب بأنه ﴿ وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾(7).
وهو على ما يقول بعض المفسرين بأن نفس الملك لم يكن يعلم بالكيفية، فلما علمت بأنه من أمر الله سبحانه كفت عن السؤال واستعدت لتلقي هذه المهمة الإلهية العظمى، وهنا نجد أنفسنا أمام عدة أُمور تستحق التأمل: ـ
الأمر الأول: تقارن إستخدام كلمة (الأمر) عند الحديث عن عيسى× وذلك في عدة مواضع من القرآن الكريم
﴿قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(8). ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً﴾(9). فخلق عيسى× كان من باب الأمر الإلهي.
الأمر الثاني: تقسم الأفعال الإلهية إلى عالمي الأمر والخلق حيث تتم في عالم الخلق وفقاً للقوانين المادية الطبيعية فلا تجري الأمور إلّا بأسبابها أما في عالم الأمر فلا يحتاج الفعل ليخرج إلى الوجود إلى المقدمات الطبيعية والأسباب المادية بل يكون ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾(10)، وهكذا كان الأمر بالنسبة للحمل وما يؤيد ذلك تسلسل الأحداث في هذه القصة القرآنية للولادة المعجزة فلا بيان للكيفية وإنما نجد أن الحدث التالي هو فحملته ولا يوجد فاصل بين سؤال مريم’ والجواب الذي تلقته وبين الحمل.
الأمر الثالث: يسوقنا السياق القرآني إلى المقارنة بين كيفية الحمل بيحيى× والحمل بعيسى× فذكرهما في موقعين من القرآن الكريم بصورة مترادفة ومتشابهه في السرد يجرّنا بالإضافة إلى ما استخلصناه في مقالات سابقة إلى أن نقارن بين الحملين، فسبحانه وتعالى عندما يجيب على تساءل زكريا× عن الكيفية يقول بأنه ﴿ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾(11)، ﴿ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً﴾(12) فالحمل بيحيى× مع أنه معجزة ـ هو فعل إلهي من نوع الخلق بينما نجد الجواب مختلفا تماماً عند ما يكون الكلام عن الحمل بعيسى× ﴿... وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً ﴾(13)﴿ مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(14)﴿قَالَ كَذَلِكِ اللهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾(15) فهو فعل إلهي من نوع الأمر، بل الأمر المقضيّ الذي لا عودة فيه ولا رادّ له وهو من نوع (كن فيكون) فلا كيفية ولا أسباب مادية ولا مقدمات عادية.
الأمر الرابع: المقارنة بين خلق عيسى× وخلق أبينا آدم×، حيث يذكر لنا سبحانه وتعالى وجهاً للشبه بين الخلقتين ﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾(16).
فهو القادر الذي لا حد لقدرته وهو خالق القوانين وقد شاءت حكمته أن تكون خلقة أول البشر ووالدهم من تراب فكان أول السلسلة البشرية ثم اقتضت حكمته ان يتولد كل إنسان من بعد آدم وحواء من أب وأم فكان له ما أراد وجرى ما قدر وسرى قضائه في خلقه فلا راد لقضائه ثم اقتضت حكمته ان يولد في وسط هذه السلسلة البشرية ولد من دون أب وليس هذا مورداً من موارد التعجب فهو الخالق لما يريد والموجد لما يشاء، فليس بين إرادته للأشياء وبين وجودها حائل يمكن أن يحدّ من قدرته وليس بين تحقيق ما يريد وبين إرادته إلا قول (كن فيكون) وهذا طبعاً من باب تقريب المطلب للأذهان وإلا فليس يُتصوّر أنّ الأمر متوقّف على صدور هذه الكلمة (كن) وبين الكينونة وإنما هو أقرب من هذا ولا فاصل بين الإرادة والكينونة وإنما المشكلة هي في ضيق أفق تعقّل من لا يمكنه تصوّر أمور كهذه وغيرها كثير فالعبد يجب أن يتخلّص من الأطُر المادية الضيّقة لكي يتسنّى له التحليق في سماء المعنى الواسعة فإذا أمكنه هذا وأحسّ باللذة من هذا التحليق فعندها يصبح الهبوط إلى القفص الضيق صعباً وهذا ما نراه من حالات العرفاء السالكين.
الأمر الخامس: ﴿ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ ﴾ وهل يمكن للمؤمن الواعي المدرك لعظمته سبحانه وتعالى أن يتصوّر عظيماً من الأمور وصعباً على الخالق القادر المتعال؟! وهنا نجد تكرّر هذه العبارة عند العرض القرآني لقصّتي ولادة يحيى× وولادة المسيح× فالحملين وإن اختلفا في الطريقة وفي الكيفية ومع كون أحدها من عالم الخلق والآخر من عالم الأمر ولكن كليهما على الله الله الخالق القادر على كل شيء الذي خضعت له الأمور بأزّمتها، كلا الخلقين عليه سبحانه سهل يسير (ذلت لقدرتك الصعاب وتسببت بلطفك الأسباب وجرى بقدرتك القضاء ومضت على إرادتك الأشياء فهي بمشئتك دون قولك مؤتمر، وبإرادتك دون نهيك منزجرة) (17).
المحور الثاني: فترة الولادة المباركة
فصّلنا الكلام عند الحديث عن مريم’ عن حملها وولادتها ونريد الآن أن نسترشرف بعض الرشحات من السرد القرآني للموقف من زاوية أُخرى ألا وهو زاوية نفس الوليد المبارك. فكلنا يعرف بأن الحالة الروحية والمعنوية للأم الحامل لها أكبر الأثر على جنينها ـ وقد فصلنا الكلام حول حالة أم مريم’ وتأثيرها على جنينها المبارك ـ ومريم’ الآن وقد أخذ الطلق وأجاءها المخاض إلى جذع النخلة وهي وحيدة تعاني الآم المخاض وتستشعر قرب وضعها لحملها المبارك يَعصف بها الحزن فما هو سبب حزنها’ فهي الصديقة وهي المطيعة وهي الواثقة من نصر الله عز وجل لعباده الصالحين، ولا يوجد إعتبار للأمور الأخرى كافتقادها لمن يعينها في الولادة حيث ان هذه الأمور على أهميتها لدى النساء العاديات ولكنها عند مريم’ التي عودت نفسها على التضحية والصبر وقدمت القرابين لله الواحد الأحد وأول هذه القرابين هي نفسها وابنها خصوصاً إذا أخذنا بنظر الإعتبار الوعد الإلهي والمقامات التي بشرتها بها الملائكة بأن وليدها سيكون حائزاً لها وبالذات تكليمه للناس وهو في المهد، فما هو سبب الحزن إذاً؟
قد يكون الجواب ما فصلنا الكلام فيه عند الحديث عن الصديقة مريم’ من إهتمامها لأجل قومها وكيفية تلقيهم لهذه المعجزة الربانية وخوفها وإشفاقها عليهم والله العالم ولكن ما يهمنا هو ردة فعل وليدها المساند لها في هذه المهمة التي بدأت أولى معالمها بالحمل به× فهنا يأتي كلامه كالماء على النار لطيفاً هادئاً مهدئاً من روع أمه مطمئناً لها مبعداً عنها الحزن والهم والغم، فهذه الأم المقدسة لا يحب لها أن تحزن ولا يراد لها أن تهتم بل يجب أن تستبشر وتقر عينها ويرتاح بالها وتطمئن نفسها وتستعد لتكملة المسيرة المقدسة فهي يجب أن تكون مرتاحة لتؤدي مهمتها على أحسن وجه ويجب أن تكون مطمئنة لتواجه قومها بأفضل مواجهة ويجب أن تكون مسرورة مستبشرة بنصر الله وتأييده وقبل كل شيء يجب أن تكون هادئة البال مرتاحة الخاطر لتحتضن وليدها العزيز وتغذيه من عصارة روحها لبناً مغذياً مقوياً معطراً بعطر الإيمان ومطعماً بطعم الطمأنينة والعافية.
فيأتيها صوته المبارك منادياً لها ﴿... أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً. فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ﴾ (18).
فكأنه يقول لها يا أماه، دعي الحزن والهم والغم جانباً فلديك تكليف أهم.
ما أعذبه من صوت وألطفه من تعبير، وما أجملها من كلمات ينطق بها هذا الوليد المبارك في أول لحظات عمره!! كيف كان إحساس هذه الصديقة الطاهرة بهذا الوليد المقدس؟! كيف كان إحساسها في تلك اللحظة القدسية؟! إنه موقف يفوق الوصف فالأم وكل أم في تلك اللحظات ـ اللحظات الأولى بعد الولادة ـ تجرب إحساساً خاصاً ومع أنه يتكرر عند كل ولادة ومع هذا فهو غير قابل للوصف ولا تستطيع الكلمات أن تعبر عنه فكيف بهذه الصديقة الطاهرة وهي التي جربت ما لم تجربه غيرها على مدى التاريخ ما مضى وما سوف يأتي؟! هذا ما لا يستطيع دركه أحد إلا هي وخالقها فسلام عليها وعلى إبنها وعلى من بشر به إبنها.
هذه الكلمات الأولى التي نطق بها المسيح× تحمل كثيراً من المعاني وقد استفاد منها الكثيرون، حيث ذكروا في ذلك تسليط القرآن الكريم الضوء على حالة الأم الروحية عند الحمل وبعد الولادة وعند الإرضاع وكذلك أهمية وجودها عند الولادة قريباً من الماء وكذلك أكل الرطب وكيف أنه يسهل الولادة ويقوي الأم ويفيد في الرضاعة وما إلى ذلك من النقاط المميزة والتي تستحق التأمل والإتباع ولكننا نضيف هنا أن نفس هذا الكلام كان له تأثير كبير ـ حتماً ـ على روح ونفس مريم’ فإحساس الأم بأن حزنها وألمها هي أمور مهمة ومُدركة من قبل الطفل وإحساسها بتعاطفه معها يطمئن قلبها ويشد من أزرها ووجوده× معها وتأييده وإسناده لها في هذه المهمة العظيمة يترك انطباعاً لطيفاً رائعاً يقوي من عزيمتها ويعينها على تكملة المسيرة بروح أكثر مضياً وإقداماً وإيماناً ورسوخاً على طريق الحق.
المحور الثالث: بعد الولادة
يعطي الوحي الإلهي ـ على لسان المسيح× تكاليفاً جديدة وخطأً واضحاً لمريم’ لتسير عليه. وفي هذا المقطع من حياتهما÷ نجد محطّات تستحق التوقف عندها: ـ
المحطة الأولى:
مريم’ المحدثة من قبل الملائكة والتي كانت التكاليف والأوامر الإلهية تأتيها عن طريق الملائكة فإذا بها بعد ولادة المسيح× تصلها التكاليف عن طريق وليدها المبارك، فما هو موقفها من هذا التحول؟ هل هو الإعتراض والترديد والشك؟ كلا، فلم ينقل لنا القرآن الكريم عنها إلا التسليم والإطاعة المطلقة الخالصة الخالية حتى عن التساؤل والإستفسار. وهذا في حد ذاته فيه من الدلالة على الخضوع والتسليم الشيء الكثير حيث أنه في الطرف المقابل، نجد أن الكثير قد أنزلقت أقدامهم في هكذا إمتحانات وهو في السحيق نتيجة الكبر والغرور اللذان قد يعترضان طريق الإنسان في منعطفات كهذه ولكن مريم المقدسة’ ثبتت وانتصرت على هوى النفس التي وطنتها وعلمتها من قبل على التسليم والإنقياد لكل ما يصدر من الحضرة الإلهية ولهذا كبير الأثر على وليدها المبارك الذي سينطلق من هذه الأرضية الجليلة والتربة الخصبة إلى آفاق الملكوت.
المحطة الثانية:
التكاليف الإلهية في هذا المقطع تكاليف متنوعة شاملة فهي تبدأ بالحالات الروحية لمريم’ من تطمينها ونفي الحزن عنها إلى العناية الخاصة بها وإجراء الكرامات على يديها من إثمار النخلة الخاوية وإجراء الماء ﴿ قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً. وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً ﴾﴿ وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ. يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ ﴾ (19). إلى الإهتمام بها جسدياً من ناحية الغذاء والشراب ﴿ فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً ﴾ إلى تلقينها كيفية المواجهة مع أبناء جلدتها بعد ولادتها’ ﴿ فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً ﴾ (20).
إلى تعليمها كيفية التعامل مع إتهامات قومها لها ﴿ فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ ﴾ (21).وهنا نجد عدة ديدث الله سبحانه وتعالى مع عباده فهو يكلفهم التكاليف المتوافقة مع خلقتهم التي خلقهم عليها حيث شاءت قدرته أن يكون وجوده مزيجاً من الروح والجسد فتكون تكاليفه شاملة لكلا البعدين من الوجود الإنساني.
التكاليف الإلهية تتناسب مع المكلف تناسباً واضحاً جلياً
فالله العالم بكل شيء المحيط بجميع دقائق ما خلق لا يكلف نفساً إلا وسعها ولا يكلف نفساً إلا ما آتاها وقد سبق علمه بأن أفضل ما يمكن أن تواجه مريم’ به قومها بعد أن جاءتهم وهي تحمل الوليد المبارك هو أن تكون صانعة صوم السكوت وأن يقوم وليدها بمهمة تبيين الحقائق وكشف ما لبس على القوم وإظهار شمس الحقيقة ساطعة غير محجوبة بسُحُب ولا غبار.
النتيجة الحتمية والتي لا تتخلف عن مقدماتها لأداء التكاليف الإلهية مهما كانت في الظاهر صعبة شاقة ـ وهذا في الظاهر لأنه في الحقيقة وكما أسلفنا هي متناسبة مع المكلف فهو قادر على أدائها وإلّا لما توجهت إليه ولهذا تسقط التكاليف عن العاجز عنها بمجرد طروء العجز ـ فعندما يسلم المكلف لصاحب القدرة اللامتناهية بكل وجوده ويؤدي تكليفه الملقى على عاتقه، نجد النصر، والتأييد الإلهي قريب بلا فصل ولا تأخير ويتبعه المدح والثناء الإلهي، وهذا الأمر لا يختص بعباد الله الصالحين في أصل الأمر وحقيقته وإن كان يختص بهم في واقع الأمر وحصيلته وذلك لسبب بسيط جداً وهو أن هذه المقدمات كانوا هم السبب في إيجادها فإيجادهم لها هو الذي جعلهم موضعاً لحصول النصرة والتأييد ومحلاً للتكريم والتبجيل الإلهي لهم وهو الذي جعلهم الخاصة والصالحين من عباده عز وجل وإلا فالرب الرحيم يريد لعباده جميعاً أن يحصلوا على هذه المقامات الكريمة ولكنه سبحانه ارتأى أن يكون هذا بإختيارهم ليكونوا أهلاً للفوز وقطباً للرحمة، فيفضيها عليهم بجوده وكرمه.
إن إجراء التكاليف في هذا المقطع على لسان المسيح× مع بني إسرائيل ﴿ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾(22). وهذا ما تعتقده الشيعة بالنسبة للأئمة^ فليس هناك شرط عمري ولا تحصيل للمقدمات التي تفترض مع غيرهم. وكذلك يدل على أن مريم’ مع ما بلغته من مقامات هي مطيعة لهذا الولي وهذا ما يذكرنا بموقف زينب’ مع الإمام السجاد× بعد واقعة عاشوراء.
المتأمل للآيات الكريمة التي تسرد لنا هذا المقطع بالذات، يجد أن هناك تكاليف صادرة من دون ذكر لرد فعل مريم’ ـ كأن تكون هناك إشارة بأنها أطاعت أم لم تطع وعمل لمريم’ من دون ذكر نفس التكليف الذي دعاها إلى ذلك العمل ولكنه لا يوجد فاصل وحد يحد بين صدور التكليف وبين طاعة مريم’ فصدور التكليف يدل على طاعة مريم’ وتحقق الفعل الذي دعى إليه التكليف وصدور الفعل منها’ يدل على صدور التكليف فعندما يقول سبحانه ناقلاً لقول المسيح× ﴿ أَلاَّ تَحْزَنِي ﴾، فهذا يدل على أنها نفضت غبار الحزن عنها وعندما يقول× ﴿ وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ ﴾ فهذا يعني أنها قامت بهز جذع النخلة فلا يعقب بالعمل الذي أمرها به وبأنها قامت به وهكذا دواليك وفي الجهة المقابلة عندما ينتقل إلى إمتثالها للأوامر الإلهية التي ينقلها لها وليدها المبارك وبإسلوب البلاغة القرآنية المنقطع النظير الذي ينقل القارئ والمستمع للآيات القرآنية في هذه الأجواء الممتعة للقصة الواقعية وفي ذروة الحبك القصصي حيث تحبس الأنفاس بانتظار الحدث المهم ألا وهو الولادة المباركة ومن بعدها مواجهة بني إسرائيل بالمسيح× لأول مرة عندما نصل إلى موقف إتيانها به× إلى قومها نجد أن القرآن الكريم لا يذكر الأمر لها بالإتيان به إلى القوم في هذه الصورة ولكن نفس إتيانها به يدل على أنها تلقت الأمر بذلك وهذا هو عين التسليم والخضوع والعبودية للمولى الحق وهذه هي القدوة التي يقدمها لنا الله سبحانه والأسوة الحسنة التي تستحق الإتباع للوصول إلى السعادة الحقيقية فالعبد لا يسعد ولا يطمئن إلّا بطاعته لمولاه العزيز الرحيم ولا يكون له ذلك إلّا إذا أحس بحقيقة العبودية بجميع دقائق وجوده وجسدها في كل تجلي من تجليات سلوكه، في أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته وفي سريرته وعلانيته، فكان هؤلاء السالكين في هذا الطريق أهلاً لأن يباهي الله سبحانه بهم أمام عباده ويشيد بمواقفهم وتصرفاتهم التي بنيت ما خفي علينا من إيمانهم وتقواهم وإعتقاداتهم الحقة.
المحور الرابع: مواجهة بني إسرائيل
تكون اللحظات الأولى من حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة لحظات متميزة حيث يواجه هذا العالم المختلف كلياً عن العالم الذي ألفه في رحم أمه وبما أن هذا العالم يختلف عن سابقه فطريقة العيش فيه أيضاً تختلف فهو هنا بحاجة لأن يتنفس برئتيه التي كانت حتى الدقائق القريبة الماضية مليئة بسائل لزج فيجب أن يخرج هذا السائل ويحل محله الهواء وهي عملية شاقة تدعو الطفل حديث الولادة إلى البكاء والصراخ ليقوم بهذه العملية على أحسن وجه وقس على ذلك بالنسبة لباقي فعالياته الحيوية الأخرى وفي الطرف المقابل نجد الأم تقضي لحظات مميزة هي الأخرى فهي تحتضن وليدها الذي كان قبل هذا ينعم بالهدوء والإستقرار في أحشائها فهي الآن تريد أن تحتضنه وتشعره بالأمان والطمأنينة وراحة البال وتريد أن ترضعه فتغذيه من عصارة روحها لبناً سائغاً هنيئاً مريئاً، فكيف كان الأمر بهذا الأم المميزة ـ مريم’ ووليدها المميز هو الآخر؟! إنها لحظات يصعب وصفها وهما الآن على أعتاب مهمة أخرى غاية في الحساسية والخطورة ألا وهي مواجهة بني إسرائيل بهذا الحدث الجلل ـ ولادة المسيح× من غير أب ـ وهم على ما هم عليه سنفصل الكلام فيه فيما سياتي من نقاط ولكن ما نريد الكلام عنه الآن هو نفس الوليد المبارك ـ المسيح× فقد كانت أولى أيام عمره الشريف مليئة بالمواقف الصعبة والتحديات العظيمة والمواجهات الحاسمة، فكان وأمه آيتان ربانيتان لمن أراد السير على الصراط الإلهي المستقيم.
النقطة الأولى:
إن الكلام الذي ينطق به البشر هو موهبة إلهية عظمى ﴿الرَّحْمَنُ. عَلَّمَ الْقُرْآنَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ. عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ﴾(23).
فهو بيان، بيان لماذا؟ هو بيان لما يجول في نفس الإنسان ويعتقده في ضميره، فهو يكشف عن حقيقة إعتقاداته، إن كان صادقاً طبعاً وهنا ـ بالنسبة إلى المسيح× فصدقه× أمر محرز موثوق حيث يخبرنا الله سبحانه ـ خير مخبر ـ معقباً على كلامه× ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾(24).فهو× قول الحق وليس فقط كلامه هو الحق والصدق ويحدثنا سبحانه في موضع آخر واصفاً صدقه× ﴿ قَالَ اللهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾(25)، فهو× الصادق في جميع أقواله في الدنيا والآخرة فإستحق أن يشيد الله سبحانه وتعالى به على رؤوس الأشهاد. وكانت هذه الصفة العظيمة ـ صفة الصدق ـ هي مما ورثه× من أمه الصديقة’ ﴿ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾(26)، (وخير ما ورث الآباء الأبناء الأدب) (27)، فماذا كان أول كلام نطق به هذا السيد العظيم والنبي الكريم مع قومه؟
النقطة الثانية: العبودية
هذه الصفة العظيمة والكمال الحقيقي للإنسان فإذا أحس بها وأدها حقها قادته إلى قمة الكمال الإنساني ألا وهي كمال العبودية للمولى الحق، فكانت صفة يفتخر بها عباد الله المصطفون وأولياؤه المقربون وهي التي متى ما اكتسبها العبد كانت الملاك في اجتنائه والمناط في اختياره من قبل المولى عز وجل وكانت القائد له لرقي درجات العلى والوصول إلى مرضاة الله سبحانه وتعالى. وهنا ـ في مورد كلمنا ـ كان أول ما نطق به هذا المولود المبارك وخاطباً قومه المبهوتين أمام هذه المعجزة الربانية ـ تكلم الوليد في المهد ـ وقاطعاً السبيل بالبرهان والدليل الدامغ على من سوف يدعي ألوهيته× فيما بعد، واصفاً نفسه بأنه عبد الله ﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ ﴾(28)، فكانت هذه الصفة بحق سبباً لوجاهته في الدنيا والآخرة ولقربه من المولى عز وجل ﴿ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَالْمُقَرَّبِينَ ﴾(29)، وكانت العلامة الواضحة والبرهان الساطع على صدقه في أنه لم ولن يدعي الألوهية أو أي مرتبة أخرى لا تليق بهذا الكمال ـ كمال العبودية ـ وفي افتتاحه× كلامه واصفاً نفسه بالعبد لله عز وجل وفي اي مقام كان فيه الكلام وباقي الصفات التي وردت على لسانه× في هذا الموقف بحث طويل نعد القارئ الكريم بمواصلته في المقالة اللاحقة انشاء الله.
وهذا الكمال هو الذي يؤهل العبد لنيل المناصب الإلهية وما كانت الإبتلاءات والإمتحانات الإلهية إلّا لبيان ما يصل إليه العبد من مقامات معنوية ولتقوية حصانته أمام إغراءات الدنيا وهو النفس ووساوس إبليس اللعين. ولا يهم متى يصل العبد إلى هذا المقام. في مدة عمره في هذا الدنيا ـ ولا كيف لأن هذا لا يؤثر كثيراً على النتيجة المتوخاة واللذة المستشعرة من هذا الوصول ـ وإن كان لها تأثيرها الحتمي من نواح أخرى والتي تكون واحدة منها التفاضل بين هؤلاء العباد على سبيل المثال ـ ولكن المهم هو نفس الوصول ونيل الحضرة عند ساحة القدس الإلهية، وهنا في مورد بحثنا هذا شخصية المسيح× كان هذا الوصول إلى هذا المقام العالي ـ مقام كمال العبودية ـ عند ولادته المباركة وكان أول ما نطق به× مع قومه هو إعترافه× بعبوديته لمولاه الحق مفتخراً بهذه العبودية التي تعطي الإنسان العز الحقيقي (الهي كفى بي فخراً أن أكون لك عبداً وكفى بي عزاً أن تكون لي رباً) (30)،وداعياً الناس خصوصاً من اعتقد به ومن رأى معجزاته إلى إستشعارها والسعي إلى الوصول إليها وليس هناك دليل على أن وصول عيسى× إلى هذا المقام في هذه السن المبكر، كان من اختصاصاته× ولكن وصوله إلى هذا المقام ووجود الدليل القرآني على ذلك يعد دليلاً دامغاً على إمكان وصول نبينا الأكرم محمد| وأهل بيته الكرام الذين خصوا على كل ما حضى عليه من سبقهم (صلوات الله عليهم أجمعين) وهذا ما يشرح ويؤيد الروايات التي تصف حالاتهم أو كلامهم^ عند ولاداتهم المباركة، فتأمل. (وفي افتتاحه× كلامه واصفاً نفسه بالعبد لله عز وجل وفي أي مقام كان فيه الكلام وباقي الصفات التي وردت على لسانه× في هذا الموقف بحث طويل نعد القارئ الكريم بمواصلته في المقالة اللاحقة إنشاء الله).
النقطة الثالثة:
ونختم هنا الكلام بما ختم به المسيح عيسى بن مريم× كلامه به، ﴿ وَالسَّلاَمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾(31)، فأي سلام هذا الذي يخص به روح الله× به نفسه الزكية في هذه المواطن الثلاثة، المواطن التي تتوق فيها النفس إلى السلام!! ومن أي جنس يكون هذا السلام من هذه الشخصية المباركة المقدسة في جميع أبعادها وجميع دقائق وجودها!! وما هو جوهر هذا الكلام المبارك الذي نطق به هذا الوليد المبارك ليكون فاتحة كلامه مع قومه، هؤلاء القوم الذين كانت لهم خصوصيات قل نظيرها في غيرهم وكان هو سلام الله عليه آخر مَن أرسل إليهم ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنبَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ...﴾(32)، وهو الذي يعلق الله عز وجل على كلامه لأول مرة مع قومه ـ بأنه ﴿ ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ ﴾(33)، تساؤلات تلح على ذهن القارئ والمتأمل للقرآن الكريم توحي بحد ذاتها بعظمة هذه الشخصية وعظمة مواقفها فيما كان وفيما سيكون، جعلنا الله من السائرين على خطاها والمستنيرين بأنوارها في الدنيا والآخرة، والحمد لله رب العالمين.
--------------
(الهواش)
1 -. البقرة: الآية 255.
2 -. سورة مريم: الآية 17.
3 -. سورة مريم: الآية 20.
4 -. سورة آل عمران: الآية 47.
5 -. سورة آل عمران: الآية 43.
6 -. سورة الأنبياء: الآية 23.
7 -. سورة مريم: الآية 21.
8 -. سورة آل عمران: الآية 47.
9 -. سورة مريم: الآية 21.
10 -. سورة يس: الآية 82.
11 -. سورة آل عمران: الآية 40.
12 -. سورة مريم: الآية 9.
13 -. سورة مريم: الآية 21.
14 -. سورة مريم: الآية 35.
15 -. سورة آل عمران: الآية 47.
16 -. سورة آل عمران: الآية 59.
17 -. الصحيفة السجادية: دعاؤه في المهمات.
18 -. سورة مريم الآيات 24، 25، 26.
19 -. سورة المؤمنون: الآية 50 و51.
20 -. سورة مريم: الآية 26.
21 -. سورة مريم: الآية 29.
22 -. سورة مريم الآية: 30.
23 -. سورة الرحمن الآيات: 1،2، 3.
24 -. سورة مريم: الآية 34.
25 -. سورة المائدة: الآية 119.
26 -. سورة المائدة: الآية 75.
27 -. عيون الحكم والمواعظ، علي بن محمد الليثي الوافطي، ص240ـ موسوعة أحاديث أهل البشارة، هادي النجفي، ح1، ص172ـ ميزان الحكمة ـ محمدي ري شهري، ح1، ص52 ـ غرر الحكم الامدي: ح5036.
28 -. سورة مريم: الآية 30.
29 -. سورة آل عمران: الآية 45.
31 -. سورة مريم: الآية 33.
32 -. سورة الصف: الآية 6.
33 -. سورة مريم: الآية 34.