تهذيب النّفس في سطور

لا يخفى أنّ مسألة (تهذيب النفس) وتربية الرّوح وتزكية القلب من المسائل العقليّة والضرورية فضلاً عن كونها من المسائل الدينية والشرعيّة، فإنّ العقل كما في الشرع يحكم بضرورة تهذيب النفس وإنّه من أوجب الواجبات في حياة الإنسان.

بيان ذلك: إنّ العقل السّليم الذي جعله الله مصباحاً منيراً وبه يمتاز الإنسان عن العجماوات، ويستضيء به في طريق حياته الفردية والإجتماعية، ليكشف أنّ الصفات الذّميمة والأعمال السيئة زائلة لا تدوم، وإنّها من الجهل، ومصيرها ومآلها إلى النّار والعذاب الأليم والمُهين، ولكنّ الصفات الحميدة والأعمال الصالحة فهي باقية إلى يوم القيامة وخالدة بخلود الجنان فما عندكم ينفذ وما عند الله باق، فمن جاء بالحسنة في صفاته وأفعاله، فله عشر أمثالها ويضاعف الله لمن يشاء كيفما يشاء بما شاء من دون حساب.

فالعقل السليم والفطرة الموحدة يرى أنّ من  تسوده وتحكمه الصفات الذميمة والسيئة، فإنّه لم يفلح في دنياه ولن يفوز في آخرته، فيجب عقلاً وشرعاً من مجاهدة النّفس والاخرة بالسوء ، وإزالة الصفات الرذيلة، والتجلّي بالفضائل وبمكارم الأخلاق وصالح الأعمال، حتى ينتفع بها ﴿يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الشعراء: 88: 89) .

فالقلب السليم من الرذائل ومساوئ الأخلاق هو النافع في الدنيا والآخرة، فإنّ الدنيا مزرعة الآخرة ومتجر أولياء الله لمن يتاجر فيها بتجارة لن تبور.

ثم إعلم: لو أنّ صفة واحدة رذيلة حكمت القلب وتغلّبت عليه، فقد أفسدته، وخبث ولم يخرج منه إلّا نكداً وفساداً، فالكوز والجرّة التي فيها قطرة من الخمر، فإنّ ما ينضح منه كان نجساً ودنساً، ولا يجوز شربه وإن لم يكن موضوعاً خمراً، إلّا أنه بحكم الخمر شرعاً، فمن كان عنده صفة رذيلة، فإن النّفس لم تكن سليمة، بل ستكون في النتيجة سقيمة لأنه ـ كما في علم المنطق ـ النتيجة تابعة الأخسّ المقدمات، ويستوجب ذلك حينئذٍ عدم طهاة ونظافة وطيب فكره وقوله وعمله.

﴿وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً﴾ (الأعراف: 58).

وإذا الأرض السّبخة والمالحة ذات الأشواك والأحجار إذا لم تُحرث بتعب ونصب، وجهود وجهاد، ولم يخرج منها الصخور والأحجار والأشواك، لما صلحت للزراعة ولا أُخذ المحصول والثمار والمنافع منها ثم كلّ ما يضمره الإنسان، فإنّه يظهر على صفحات وجهه وفلتات لسانه، فمن يضمر صفة رذيلة، فإنّها تفضحه يوماً وتخرج آثارها على سلوك الإنسان ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ (الإسراء: 84).

فمن كان في قلبه كبراً وعلّواً وإستعلاءً على الآخرين، فإنّه يظهر على جوارحه تكبّراً، كما يبرز ذلك في سلوكه وفي كلّ مفاصل حياته.

قانون المحاسبة:

وهنا لابدّ للمهاجر إلى الله ورسوله، والمجاهد في سبيل الله بالجهاد الأكبر، أن يحاسب نفسه، فإنّه كما ورد في الحديث الشريف عن الإمام الكاظم × : (ليس منّا من لم يحاسب نفسه كلّ يوم).

وعن بعض العارفين+: إنه يتوضأ قبل نومه ويستقبل القبلة، ويحاسب نفسه، فإن أحسن شكر ربّه، وإن أساء استغفر وتاب إليه.

الحذار الحذار:

والخطر الدّاهم والدائم عند محاسبة النّفس لتهذيبها وتزكيّتها وإصلاحها أنّه يحضر عنده شريك خطير يوسوس له ويُشغله عن المحاسبة، بل ويسوّل أعماله السيئة، فيزين الباطل بلباس الحق، حتى يحسب المرء أنه يُحسن صنعاً.

وذلك الشريك الظالم الخائن والغادر تارة من داخلنا وهي النفس الأمارة بالسّوء، فإنّ الإنسان يعمل السوء والمنكر يكون ذلك ملكة له ويراه معروفاً وحسناً، فتأمر النفس به ، لإمارتها على مملكة وجود الإنسان، فتكون القوى النفسانية والجوارح والجوانح في خدمة إمارتها وحكومتها الجاهلة والجائرة، وإنّ النّفس الأمارة بالسّوء أعدى عدوك التي بين جنبيك.

وأمّا الشريك من الخارج فهم شياطين الجن والإنس كأصدقاء السّوء وأتباع الهوى وعبيد الدنيا.

بالإخلاص يكون الخلاص:

ولكن رحمة ربّك الواسعة شملت من أخلص في عبادته وحياته، فإنّه يخلص من إغواء إبليس ووساوس حزبه، سواء من داخل الإنسان أو من خارجه وكما ورد عن أمير المؤمنين علي× : (بالإخلاص يكون الخلاص).

وقال×: (أخلص تَنل) ممن طلب معالي الأخلاق ومكارمها ومحاسنها، إنّما يكون ذلك بالإخلاص.

ولا ريب أنّ مقدمة الإخلاص التفكر والتأمّل والتدبّر، ثم التوكل على الله والتسليم لأمره والرضا بقضائه، ثم الإخلاص في القلب وفي العمل ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً﴾ (الكهف: 110) ومثل يوسف الصديق يخلص في عمله ﴿إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾ (يوسف: 24).

ومن لم يُخلص كان في ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ﴾ (النور: 40)، فلا خير فيه ولم يكن له موقع في النفوس الطاهرة، ولا ريب أنّ من يُخرج من قلبه شياطين الرّياء والعُجب وحبّ الإطراء والسمعة والكبر والحسّد وكل رذيلة من الرذائل الأخلاقية، فإنّه يفتح المجال لدخول ملائكة الرّحمة وبهاء الله وجلاله وجماله وكماله، وكان قلبه حرم الله وعرش الرّحمن، وقد فاز فوزاً عظيماً. اللهم اجعلني من المخلصين و صلي الله علي محمد و آله الطاهرين ، آمين يارب العالمين . 

الصفحة التالية فهرس الكتب