بسم الله الرحمن الرحيم

البيت الرفيع

قال الله الحكيم في محكم كتابه الكريم: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ﴾.

إنّ من أبرز مصاديق هذه البيوت المرفوعة، ومن أفضل بيوت الأنبياء والأوصياء هو بيت أمير المؤمنين عل× وفاطمة الزهراء÷، وهذا البيت الرفيع في النجف الأشرف، فإن عظمة المكان وشرافته وقداسته ورفعته بالمكين، فكان الغري والنجف الأشرف من أقدس وأشرف بقاع العالم بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة ـ كما ورد في الأخبار الشريفة.

فزاد الله النجف الأشرف شرفاً وكرامة وقداسة ورفعة بأمير المؤمنين علي× وبآدم ونوح÷، وبما فيها من الأنبياء والعلماء على مرّ التاريخ وأصبحت تشد إليها الرّجال، رواحل العظماء والأتقياء والصلحاء، تبعهم الخلفاء والملوك والوزراء، وبهذا دخلت النجف الأشرف التاريخ من أوسع أبوابه، فكانت من البقاع المشرفة والمقدّسة التي ضمّت عظام نبي الله آدم× وبدن نوح النبي صاحب الطوفان×، ثم سعدت وتشرفت بإحتضان جثمان الإمام أمير المؤمنين ويعسوب الدين علي×.

إنّ النجف الأشرف بلدة طيّبة دوى صداها في الخافقين، فهي من البلاد المباركة إشتهرت بالعلم والفقاهة والدين، والبطولات والتّضحيات كما هو مسطور في التّاريخ.

وجه تسمية النجف وأسماءها:

أول ما يتبادر إلى الذهن عند طرح تاريخ النجف الأشرف هو وجه التسمية بالنجف أولاً، وما هي أسمائها الواردة في كتب التاريخ.

أمّا النجف لغةً: فهي بمعنى المكان الذي لا يعلوه الماء كالتّل إلّا أنّه مستطيل منقاد، وجمعه: نجاف. وأيضاً بمعنى العتبة، وهي أمكنة الباب، وهو يظهر الكوفة كالمسّناة تمنع سيل الماء أن يعلو الكوفة بيوتها ومقابرها، كما هناك وجوه أخرى كقصة ابن نوح واعتصامه بجعل (في) ثم صار الجبل متلاشياً وفي موضعه بحراً ثم جفّ البحر فصار (ني جفّ) وبكثرة الإستعمال صار (نجف) كما عن الشيخ الصدوق عن الإمام الصادق× قال: إنّ النجف كان جبلاً عظيماً وهو الذي قال ابن نوح ﴿سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ﴾ ولم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه، فأوحى الله عز وجل إليه: يَا جبل إيعتصم بك منّي، فتقطع قطعاً قطعاً إلى بلاد الشام ، وصار رملاً دقيقاً، وصار بعد ذلك بحراً عظيماً، وكان يسمى ذلك البحر بحر (ني) ثم جفّ بعد ذلك، فقبل: في جف فسمى بـ (نيجف) ثم صار بعد ذلك يسمونه (نجف) لأنه كان أخف على ألسنتهم، وهذا يدل على قدم تاريخ النجف.

وكانت بحيرة (نج) يستسقي منه أهل الحيرة وفي صباح خرجت إمرأة لتستمتع فرآته جافاً ويابساً فقالت (نجّ جَف) ومن كثرة الإستعمال صار (نجف) أو كانت بحيرة ومن كثر خريرها سميت (أن جف) فصارت نجف.

وأمّا أسماءها الأخرى:

2 ـ الغري: أو الغريان: وهما بناءآن طويلان يقال: هما غير مالك وعقيل نديمي جُذيمة الأبرش أحد ملوك الحيرة.

والنجف الكبيرة تتشكل من مثلث بثلاث بلاد: الحيرة والغري والكوفة، ففي ضلع القاعدة: الكوفة والحيرة، وفي رأس الزاوية الغري أو النجف، فهي في ظهر الكوفة، ويعبّر عنها بالنجف الصغيرة، وأمّا الغريان فالتثنية أفردت إمّا لهدم أحد المقربين أو للخفة في الإستعمال، أو لحُسنه، لأنّ الغري في اللغة هو الحَسن من كلّ شيء، قالت العرب: هذا رجل غري الوجه، إذا كان حسناً مليحاً، وتسمى النجف في الجاهلية (خدّ الحمراء) لما ينبت منها من الورود  والأزهار المختلفة ممّا يزيد في جمالها.

3 ـ المشهد: وهو محضر النّاس، ومشاهد مكرمة المكرمة المواطن التي يجتمعون بها، والمشهد من أسماء النّجف لإجتماع النّاس عند مرقد أمير المؤمنين× وقبور أئمتنا الأطهار^ كلّها مشاهد مقدسة كمشهد الإمام الرضا× في خراسان ـ إيران ـ

فباطن النجف مشهد أمير المؤمنين× وفاق في الجلالة والعظمة مشهده المشاهد الأُخرى، وقد بيّن الإمام الصادق لصفوان لجمال مشهد وقبر أمير المؤمنين×، وسأله صفوان: يا ابن رسول الله ما منع الأبرار من أهل بيته من إظهار مشهده؟! قال: حذراً من لبى مروان والخوارج أن تحتال في أذاه.

حتى الحجاج الأموي نبش ثلاثة آلاف من قبور النجف في طلب جثة أمير المؤمنين× فلم يظفر بذلك، لعداء بني أميّة والخوارج إياه×، فلم يطلّع عليه إلّا الخواص من شيعته× حتى زمان هارون العباسي.

4 ـ الظهر: الظهر من الأرض ما غلظ وإرتفع، والبطن: ما لان منها وسهل ورقّ وإطمأن، وسميت النجف بالظهر لإرتفاع أرضها بالنسبة إلى الكوفة، وعمّا حولها، وطول الظهر بمقدار طول البحر، وعرضه ما بين السدير والثويّة.

5 ـ ظهر الكوفة: علم وجهه ممّا سبق.

6 ـ ظهر الحيرة. 7 ـ نجف الكوفة . 8 ـ نجف الحيرة. 9 ـ النّجفة. 10 ـ اللطاط: أي ساحل البحر. 11 ـ اللّسان. 12 ـ خدّ العذراء (العذاري). 13 ـ الرّحى.

14 ـ بانِقيا: وسبب تسميتها بذلك ما جاء في الخبر الشريف:

أنّ إبراهيم الخليل ولوطاً÷ مرّا بها يريدان بيت المقدس مهاجرين، فنزلا بها، وكانت تُزلزل في كلّ ليلة، وكانت ضخمة جدّاً، فراسخ، فلّما باتابها لم تُزلزل، فمشى بعضهم إلى بعض تعجّباً من عافيتهم في ليلتهم، فقال صاحب منزل إبراهيم×: ما دُفع عنكم إلّا بشيخ بات عندي، كان يصلّي ليله ويبكي، فاجتمعوا إليه، فسألوه المقام عندهم على أن يجمعوا له من أموالهم، فيكون أكثرهم مالاً، فقال: لم أُومر بذلك، وإنّما اُمرت بالهجرة، فخرج حتى أتى النجف، فلّما رآه رجع أدراجه، فتباشروا برجوعه، وظنّوا أنه رغب فيما عندهم، فقال: لمن تلك الأرض، يعني النجف؟ قالوا: لنا، قال: فتبيعونها؟ قالوا: هي لك، فو الله ما تنبت شيئاً.

فقال لا أحبّ إلّا تكون شراء فدفع إليهم غُنيمات كنّ معه، والغَنم بالنبطية يقال لها: (نقِب) ـ وبابمعنى الثمن، أي ثمن الأرض من الغنم ـ

وذكر إبراهيم الخليل×: أنّه يحشر من ولده من ذلك الظهر سبعون ألف شهيد، فاليهود كانت تنقل موتاها إلى بانقيا لمكان هذا الحديث.

ولم تزل بانقيا باقيةً حتى عصر خلافة أمير المؤمنين×، وكان أكثر سكّانها من اليهود، لإعتقادهم في فضل دفن الموتى في النجف.

15 ـ دومة الكوفة . 16 ـ دوحة (دوحا) . 17 ـ دُومة الحيرة. 17 ـ الجُرف ـ بضم الجيم المعجمة ـ عُرض الجبل الأملس، والجَرف ـ بفتح الجيم ـ هو الخصب والكلأ الملتّف، وأجرفَ الرّجل: إذا رعى إبله في الجَرف، والجرف موضع بالحيرةِ كانت بها منازل المنذر.

19 ـ الطف: ساحل البحر، وفناء الدّار، وسفح الجبل وجمع الطف: الطفوف، وسمّى به لأنه مشرف على العراق، من أطف: يعني أعلى، وهي أرض بادية قريبة من الرّيف، فيها عدة عيون ماء جارية.

20 ـ المجاز.

21 ـ الرّبوة: كل ما ارتفع من الأرض، في الحديث عن أبي عبد الله× في قول الله تعالى: ﴿وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾. قال: الربّوة (نجف الكوفة) والمعين (الفرات) .

22ـ طور سيناء: والطور هو الجبل.

23 ـ الجودي: إسم للجبل وضعت عليه سفينة نوح×.

24 ـ شاطئ البحر.

25 ـ الجبل الأحمر.

26 ـ ساحل بحر الملح.

27 ـ وادي السلام.

وقد وردت روايات كثيرة في فضل وادي السلام، وإنّه لبقعة من جنّة عَدن، يجتمع فيه أرواح كلّ المؤمنين حَلَق حَلَق يتزاورون ويتحدثون محبّين وهم أرواح، ونحشر أرواحهم من ذلك المكان المقدس.

وكان أمير المؤمنين علي× يأتي النجف ويقول وادي السلام ومجتمع أرواح المؤمنين، ونِعَم المضجع للمؤمن هذا المكان وكان يقول: اللهم اجعل قبري بها.

27 ـ مقبرة براثا: يحشر منها مأة عشرون ألف شهيد كشهداء بدر.

28 ـ الثويَّة: بمعنى الإقامة وسميت بذلك لسجن بناه تُبّع من الملوك، فكان إذا حبس فيه إنساناً ثوى فيه، حتى يموت وقبل: بمعناها: الحجارة التي توضع حول البيت يأوي إليها المال ليلاً.

وإعلم أنّ النجف كانت عربيّة قبل الإسلام، وقد دخلها المسلمون بلا قتال مع أهلها.

جغرافية النجف الأشرف:

يقع في الجزء الجنوبي الغربي من وسط العراق، غربي نهر دجلة، ومساحتها: (6.760) كيلو متر مربعاً، بضمنها مساعة منخفض بحر النجف التي تبلغ (364) كيلو متراً مربعاً.

وتقوم مدينة النجف الأشرف على رابية مرتفعة فوق أرض رملية فسيحة، ترتفع عن سطح البحر حوالي (70) متراً.

إعمار النّجف الأشرف:

لعلّ أول عمارة أنشأت في أرض النجف كانت في عصر (بخت نُصّر) حينما غزا العرب بحدود خمسمأئة وخمسين سنة قبل ميلاد المسيح×، فبنى لمن ظفر به منهم بناء على النجف، ولمّا أطلقهم يختنصر اتخذوا ذلك البناء منزلاً لهم في حياته، ثم هجروه بعد وفاته وانضموا إلى أهل الأنبار وأصبح بناءً خراباً، كما أنّ مدينة الأنبار والحيرة من أعمال بخت نُصّرلسلمية أصحابها معه، فأسكنهم فيهما، وبنى لهم البناء، بإرشاد من برخيا.

وكانت أرض النجف في أيام ملوك الحيرة، أرض خضراء يسكنها الناس، في الفترة الواقعة من العصر الساساني المتأخر إلى القرن الثالث الهجري تقريباً.

وتمصّرت الكوفة سنة (17) من الهجرة النبوية وفي عصر خلافة أمير المؤمنين علي× عندما اتخذها عاصمة لحكومته وخلافته.

وأوّل من دفن فيها من الصحابة (خُبّاب بن الأَرت) بعد أن مثلوا به الخوارج سنة 37 فلما اصيب بسهم وقتل قال لولده: بني أُدفني بالظهر، فإنّك لو دفنتني بالظهر، قيل دفن رجل من أصحاب رسول الله|، فيدفن النّاس موتاهم بالظهر، فدفن بعد ذلك العديد من الصحابة، وصارت مقبرة لأهل الكوفة.

قبر أمير المؤمنين علي×:

لقد ورد في التايخ والأحاديث الشريفة كيف دُفن أمير المؤمنين× في ظهر الكوفة بعدما وصّى بذلك أمير المؤمنين ولده الإمام الحسن× بعد شهادته في محراب صلاته، وبقي القبر خفياً إلّا للخواص لعداء بني أميّة والخوارج إيّاه، حتى الحجاج الثقفي لعنه الله منهم من نبش ثلاثة آلا قبراً ليمثل بجثمان أمير المؤمنين علي× ولم يظفر بإرادة الله سبحانه، فأرادوا ليطفؤا نور الله سبحانه بأفواههم وإجرامهم، إلّا أن الله سبحانه أبى إلّا أن يتم نوره ولو كره المشركون والمنافقون.

وبعد إنتقال الحكومة الجائرة الأموية إلى الحكم العباسي الجائر والظالم أيضاً، إلّا أنه شاء الله سبحانه أن يظهر قبر وليّه الأعظم في عصر هارون العباسي سنة 175 هـ لما رأى وحوشاً تستأنس بذلك المحل وتفر إليه إلتجاءً من يد أهل الصيد، فأخبروه بأنّه قبر أمير المؤمنين×، فأصبح من بعد ذلك نواة لسكنى عدد من الشيعة والعلويين، واطمأنوا من بطش الطاغية، فبنوا بيوتاً، وأقاموا فيها، وبقيت البيوت بين عمران وخراب حتى بني العمارة على المرقد الطاهر حوالي سنة 283 هـ في عهد المعتضد العباسي، وإستمرت المجاورة بلا إنقطاع حتى عصرنا هذا.

وفي عصر الطاغية المتوكل العباسي بن المعتصم بن هارون أمر بهدم قبر أمير المؤمنين× وقبر سيد الشهداء الإمام الحسين× سنة 238 هـ فهرب المجاورون من سطوته، وكانوا الخلفاء العباسيين على نهجه من العداء والنّصب سوى ولده المنتصر الذي أمر الناس سنة 248 هـ بزيارة قبر أمير المؤمنين×، إلّا أن خلافته لم تدم له أكثر من ستة أشهر، ومن بعده كانت الزيارة محضورة على الشيعة.

وفي حكومة المعتضد حوالي سنة 283 هـ أحد ملوك طبرستان وهو محمد بن زيد المعروف بالدّاعي الصغير بني عمارة على المرقد الشريف، تتكوّن من قبّة وحائط وحصن فيه سبعون طاقاً، وهذه أوّل عمارة بعد البناء الذي تم في عصر هارون العباسي، ولم يكن قبلها قبر إلّا أرض خالية.

وبعد التقدم العمراني الذي حصل للنجف في العهد البويهي بعد زياة عضد الدولة البويهي للمرقد سنة 371 هـ أخذت الأسر والعوائل العلمية في الكوفة تنتقل إليها، وتقطنها، ويقصدها طلاب العلوم والمعرفة.

وإتسعت النجف الأشرف في عهد الشاه طهماسب من ملوك إيران المتوفي سنة 984، فكانت تضّم ستة الآف إلى سبعة الآف دار مبنيّة بإتقان.

وكانت البيوت والدور بين عمران وخراب، ونقصان وزيادة، وفي سنة 1288 هـ تحتوي النجف على عشرين ألف بيتاً وفي سنة 1339 هـ عدد النفوس ستين ألفاً، وهي السنة التي زحف الجيش البريطاني ليحتل النجف إلّا أنه إندحر مذموماً وعاشت النجف مرفوعة الرأس والراية إلى يومنا هذا ، صانها الله من حوادث الدّهر.

الصفحة السابقة الصفحة التالية فهرس الكتب