* سطور في العهد *

الخطیب السید صالح التبریزي

قال تعالی: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾ (الاسراء: 34) اعلم ایّها الأخ المؤمن ان الوفاء بالعهد من الصفات الحمیدة التي تملک جذوراً فطریة في بناء الانسان وجمیع افراد البشر في أي عصر کانوا وأي مصر یدرکون بصورة فطریة ضرورة الوفاء بالعهد وقبح نقض العهد مادامت فطرتهم سلیمة.

فالانسان إذا تعاهد مع شخص آخر فهو یشعر أنّه مُلزم بأن یفي له فاذا نقض عهده فلا مفرّ من الاحساس بتأنیب الضمیر والندم وکذلک اذا تعاهد معه شخص فإنّه ینظر بصورة بطبیعیة ان یفي له بما عاهد مع فاذا أخلف فإنّه یحسّ بان ذلک الشخص قد ارتکب فعلاً قبیحاً.

وحتی الطفل یدرک بفطرته لزوم الوفاء بالعهد في الوقت الذي لا یدرک المسائل العلمیة والعقلیة فنلاحظ عندما یعده أبوه بان یجلب له عند عودته شیئاً من وسائل اللعب مثلاً فإنّه یتوقع بصورة طبیعیة أن یفي أبوه بما وعده فعندما یسمع الجرس یرنُ ویدخل الأب یتقدم الطفل لیأخذ لعبته فینظر الی یدي أبیه فان لم یکن الأب قد وفي بوعده سوف یتألم ویصرخ معبراً بذلک عن سوء فعل الأب وان ارتکب شیئاً کان لابد ان لا یرتبکه.

وهنا مادام الکلام جرّ بنا إلی الطفل لابد من الإشارة الی نکتة تربویة مهمة تهمّ الآباء والامهات وهي أنّه ایّها الأب وایّتها الأم لا تواعدوا اطفالکم علی شيء وانتم تحتملون ان لا تتمکنوا من الوفاء به لأنه لو لم تفوا بما وعدتم وکررتم هذا العمل مراراً هل تعلمون ماذا سیحدث؟

أقول لکم الذي یحدث أولاً: ان ابنکم سوف یعتقد ان هذا العمل –نقض العهد- لیس فعلاً قبیحاً وإلّا فلو کان قبیحاً لما فعله ابوه او فعلته أمه.

ثانیاً: سوف یتربی علی هذا الخلق شاء الآخرون أم أبوا.

إذن الوفاء بالعهد هو نداء الفطرة السلیمة ولهذا جاء الانبیاء ورسل السماء کي یربّوا هذه السجیّة الفاضلة في نفس الانسان والیک بعض النصوص:

یقول الله سبحانه وتعالی: ﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً﴾ (الاسراء: 34)، ویصف المؤمنین حیث یقول: ﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾ (المؤمنون: 8). وقد ورد عن الامام موسی بن جعفر(×) عن آباءه الطاهرین عن رسول الله(|) انه قال: «لادین لمن لا عهد له» وعنه ایضا(|): «من کان یؤمن بالله والیوم الآخر فلیفِ إذا وعد».

ولابد ان تعلم أیّها الأخ المؤمن ان الشریعة لم تجعل هذا الحق مختصاً للفرد المسلم علی أخیه المسلم بل جعلته من حق الأنسان علی الانسان مهما کان دینه ومذهبه اذاً فهو حق بشري ولیس اسلامي فحسب.

لاحظ ماذا یقول الرسول الأعظم(|) یقول: «ثلاثة لیس لأحد منهن رخصة: الوفاء بالعهد لمسلم کان أو کافر، وبرّ الوالدین مسلمین کانا أو کافرین، وأداء الأمانة لمسلم کان أو کافر».

ولعل الحکمة في ذلک هو أن یری غیر المسلم کیف یُربّي الاسلام اتباعه وأنّه دین الحیاة والخیر وقد ورد عنهم(×): «کانوا دُعاةً لنا بغیر السنتکم».

وهُنا أری من المهم أن اعرض لک مثالاً واحداً لیدلک علی شرف الوفاء بالعهد ومنزلته عند ائمة المسلمین وکیف کانوا یربّون شیعتهم علی ذلک کما تعلم أن الامام زین العابدین(×) کان قد عتق من موالیه –عبیده- العدد الکبیر وکان یعطیهم شیئاً من المال کي یستعینوا به علی التجارة وطلب العیش، صادف أن أحد موالیه حصل علی ثروة لابأس بها وفي بعض الایام أُصیب الامام(×) بضائقة مالیة شدیدة فطلب من مولاه الذي أعتقه أن یقرضه مبلغاً قدره عشرة آلاف درهم یرجعه إلیه عند الاستطاعة فطلب من الامام سنداً أو وثیقة، مدّ الامام یده إلی طرف رداءه واستخرج هدبة –خیطاً- منه، وقال له: خذ فهذه وثیقتي عندک إلی أن أردّ الیک مالک لقد ثقل علی المُقرض ان یوافق علی وثیقة کهذه ولکنه للنظر إلی شخصیة الامام(×) سلّم الیه المال وأخذ الخیط ووضعه في علبة صغیرة، ثم صادف أن الامام(×) تیسّرت أموره بعد فترة فردّ المبلغ إلی صاحبه ثم قال له: احضرت مالک فهات وثیقتي فقال له: جعلت فداک ضیّعتها. قال: إذاً لا تأخذ مالک منّي، لیس مثلي یُستخفّ بذمته، قال: فبحث عنها الرجل فوجد الخیط فاعطاه الامام(×) الدراهم وأخذ الخیط ورمی به وانصرف.

لاحظ إن خیطاً من رداء لاقیمة له ولکن عندما یکون الخیط رمزاً للتعهد الصادر من شخص شریف فإنّ قیمته ترتفع إلی أن یصبح وثیقة لدین عن عشرة الآف درهم. ثم إن الوفاء بالعهد من صفات الله عزوجل فالله یصرّح بذلک في القرآن الکریم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ﴾ (الرعد: 31)، فالانسان الذي لا یخلف وعده یکون متصفاً بإحدی الصفات الالهیة وهذا هو علامة لمرتبة من مراتب الکمال والفضیلة. فجدیر بکم أیّها المؤمنون أن تتخلقوا بأخلاق الله وانبیاءه والأئمة الطاهرین فإن في ذلک سعادة الدنیا والآخرة. والله سبحانه یقول: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ (الشمس: 7-10)

          وغفر الله لي ولکم... والحمد لله ربّ العالمین.